للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عن المجتمع الريفي المحيط بها، شأنها في ذلك شأن غيرها من المدن الرئيسية في عصرها، أو يكون تحصينًا مقصودًا لذاته، جعله أوائل ملوك الأسرة الأولى ضمانًا لأمن العاصمة من الانتقاضات المحتملة من الوجه البحري الذي كان قد أدمج لتوه في الوحدة السياسية الجديدة تحت زعامة ملوك من الصعيد.

ونسب المصريون الألوهية الكبرى في منف إلى بتاح، وكان من أوائل المعبودات التي صورت بصورة بشرية منذ ما قبل عصر بداية الأسرات، وظل محتفظًا بها حتى نهاية عصور التاريخ المصري القديم. وكان يشاركه شهرته في مدينته معبود آخر وهو "سكر" الذي اعتبره أتباعه من رعاة الحرث والزراعة وتوهموه يسكن تحت الأرض فأصبح من ثم راعيًا كذلك لمن يسكنون تحتها في منطقته وهم الموتى، وكان له مزاره في جبانة سقارة التي سميت باسمه.

وضرب فقهاء المدينة بسهم وافر في رقي الفكر والعقيدة، وصور هذا الرقي نص لوحة حجرية عرفت اصطلاحًا باسم لوحة شاباكا، وهي لوحة نقش نصها خلال عصر الأسرة الخامسة والعشرين في نهاية القرن الثامن ق. م. وجدد كاتبها بإذن ملكه شاباكا نصًّا قديمًا كتبه أصحابه على الجلد أو البردي وأوشكت الأرضة أن تأتي عليه، وكان نصًّا تضمن مذهب مفكري منف في نشأة الوجود، وعرف اصطلاحًا تبعًا لذلك باسم المذهب المنفي. وربما تجدد كتابته عدة مرات منذ بداية الأسرات حتى ما قبل عهد شاباكا، وإن لم يعثر بعد للأسف على أي من نسخه القديمة.

وود زعماء منف أن يكفلوا لمدينتهم زعامة الفكر والدين والأدب إلى جانب ما توافر لها من زعامة الإدارة والسياسة، وابتغوا أن يقنعوا الناس بأنه كان لإله مدينتهم الأثر الأصيل القديم في نشأة الوجود والموجودات، وهو الإله بتاح الذي قد يعني اسمه معنى الصانع أو الخلاق، ولقبوه بلقب "تاثنن" بمعنى "رب" الأرض العالية أو الناهضة. فأدلوا برأيهم في منافسة وتعديل مذهب الخلق القديم الذي نادت به مدينة أونو المجاورة لمدينتهم، والذي تحدث علماؤها فيه عن ماض بعيد لم تكن فيه أرض ولا سماء ولا بشر، وما من دودة أو علقة، وما من حس أو حسيس، وما من موت أو حياة، وما من نزاع أو خصام، وإنما خضم مائي أزلي واسع حوى بين طياته عنصر الحياة لكل شيء، وهو "نون" الذي خرج منه الإله الخالق أتوم ثم تعاقب بعده بقية التاسوع المقدس "راجع ص٦٥".

وتدبر مفكرو منف عقائد أخرى تتصل بديانة عصرهم وسياسته، ثم خرجوا على الناس بمذهب جديد يصطبغ بالمعنوية أكثر مما يصطبغ بالمادية، وجعلوا صلبه الدين وأكسبوه إهاب التاريخ. وردوا فيه خلق الوجود وما احتواه إلى قدرة عاقلة مدبرة آمرة، وتمثلوا هذه القدرة العاقلة الآمرة في إلههم بتاح، وأكدوا أنه أوجد نفسه بنفسه، وأبدع الكون ومعبوداته وناسه وحيواناته وديدانه عن قصد منه ورغبة، وأن سبيله إلى الخلق كله كان هو سبيل القلب واللسان. أي الفكر والكلمة، فكرة تدبرها قلبه أو عقله وأصدرها لسانه فكان من أمر الخلق ما كان. وكان لفظ القلب يعني عندهم ما يشمله مثله في اللغة العربية من معاني العقل والفكر والإرادة والضمير، كما عنى لفظ اللسان معنى أداة النطق والأمر والكلام. وأكدوا أنه عن

<<  <   >  >>