وليس من اليسير كذلك أن نفترض، كما ذهب شارف، أن كل من حشدوا لبناء الهرم كانوا يهللون لما جمعوا له باسم الدين وتأليه الفرعون كما يقول، وأكثرهم من الفقراء الكادحين في سبيل لقمة العيش. وليس من اليسير أخيرًا أن نجعل القسوة أو السخرة علمًا على سلطان الفراعنة المصريين على الإطلاق ودون استثناء، كما ذهب أصحاب الرأي الثالث لمجرد ضخامة آثارهم. ونرى أنه من الأفضل أن نتصور للقضية كل أطرافها المحتملة على ضوء من الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والروحية التي عاش في ظلها صاحب الهرم والقائمون على تشييد الهرم.
فقد اعتمد مصر القديمة في أغلب حياتها الزراعية على دورة زراعية سنوية رئيسية واحدة كانت تؤدي إلى تعطل المزارعين عدة شهور من كل عام. وفي هذه الشهور، أو في البعض منها، اعتاد الحكام أن يعملوا على تجميع أعداد كبيرة من عمال الأرض وزراعها؛ ليقوموا بخدمة مشاريع الحكومة العامة ومنشآت الفرعون الخاصة أساسًا، ثم ليتكسبوا من العمل في هذه المشاريع والمنشآت مورد رزق مناسب لهم في مواسم تعطلهم عن العمل ضمنًا "وذلك إلى جانب الصناع الفنيين الدائمين". وأشار المؤرخون الإغريق الذين زاروا مصر في أواخر عصورها القديمة إلى مثل هذا الوضع. فذكروا أنهم سمعوا أن العمل في الهرم كان يجري "وعلى الأصح كان يشتد" في مواسم الفيضان بخاصة، وفي مواسم التعطل عن الزراعة كل عام. وترتب على ذلك فيما رووه أن بناء الهرم الأكبر وتوابعه قد استغرق نحو عشرين عامًا ولم يتم في وقت قصير.
واعترفنا من قبل بأنه توفر للفراعنة المصريين نظام من الحكم المطلق أتاح لهم إشرافًا واسعًا وهيمنة كبيرة على موارد البلاد وإمكانياتها المادية والبشرية، ونضيف إلى ذلك أن نفس هذا النظام من الحكم أتاح لحكوماتهم سلطانًا إداريًّا واسعًا، وجعل لها الحق في أن تكلف من تشاء من القادرين على العمل من السكان، بالعمل في مشروعاتها ومشروعات الفراعنة الدنيوية والدينية، حيثما أرادت وهو تكليف "أو تسخير" لم يكن يُعفى منه فيما يرجح غير طوائف المتعلمين من موظفي الدولة وكهنة المعابد الكبار وربما كبار أعيان المدن والقرى أيضًا.
وإلى جانب السيطرة السياسية والاقتصادية والإدارية الواسعة التي توافرت للفراعنة وحكوماتهم، استحب الفراعنة لأنفسهم، وأكد لهم أشياعهم، قدرًا كبيرًا من القداسة الروحية والسيادة الدينية على رعاياهم "وإن لم يصل هذا القدر إلى حد التأله الصريح". فالفرعون رأس الحكومة، كان يعتبر بالتالي رأس الديانة ووريث الأرباب. وكان فيما صورته مذاهب الدين يعتبر من المتحكمين في شئون الآخرة والمهيمنين على مصائر أهلها. وآزر رجال الحاشية والكهان فراعنتهم فيما ادعوه لأنفسهم من قداسة وسيادة، ورددوه في نصوصهم الدنيوية والدينية مرارًا وتكرارًا. فآمنت بهذا الذي ادعاه الفراعنة والكهان وأهل البلاط عهود، وكفرت به عهود أخرى. وسلمت بصحته طوائف وتجاهلته طوائف عداها. غير أن الفراعنة استطاعوا في أغلب أحوالهم أن يستغلوا سلطانهم الديني والروحي التقليدي أوسع استغلال واستطاعوا أن يوجهوه لتنفيذ رغائبهم وإقامة منشآتهم. وليس من المستبعد أن الكهان كانوا يتعمدون في مواعظهم أن ييسروا على الكادحين