تمثلت في ضعف الإمارات وعجز الحكام عن رعاية مصالح أرضهم، كما تمثلت في نشوب الفتن والمنازعات، هي عوامل يشتد أثرها في دفع الهجرات فعلا، ولكنها غالبًا ما تكون عوامل مباشرة وليست عوامل أصيلة. أما العوامل الأصيلة فتتمثل في الجفاف الطبيعي نفسه، وذلك بمعنى أن منازعات القبائل على الماء والمرعى تشتد عادة بعد ظهور الجدب البيئي فعلًا، وأن ضعف الإمارات يشتد بدوره بعد بوار مواردها وبعد حدوث القحط فعلًا، لا سيما وأن نزوح الهجرات كان يبدأ عادة من المناطق المعرضة للجفاف الشديد أكثر مما يبدأ من غيرها١.
ونرى تزكية آراء هذا الاتجاه الأخير، مع إضافة ملاحظة رئيسية عليه، وهي أنه مع منطقية اعتبار شبه الجزيرة العربية مصدرًا أوليًّا لكثير من العناصر السامية القديمة التي انتشرت في الشرق الأدنى القديم، إلا أنه ليس ثمة ما يؤكد اتجاه هجراتهم الكثيفة منها إلى الأراضي الزراعية في بلاد الهلال الخصيب رأسًا وفي دفعات كبيرة أو فترات قصيرة، وذلك لأمرين: أولهما أن نزوح هجرات كثيفة متماسكة من أرض ما يتطلب عاملًا أساسيًّا وهو أن تسمح موارد هذه الأرض في أحوالها العادية بشدة تكاثف سكانها، حتى إذا نزل القحط بها واشتد وطال أمده ونضبت معه مواردها، اضطرت أعداد كبيرة من سكانها الكثيرين إلى أن تنشد لنفسها حياة أفضل من حياة أرضها، وذلك على نحو ما حدث في مناطق الإستبس الأورو آسيوية أكثر من مرة في تاريخها القديم وتاريخها الوسيط.
أما موارد شبه الجزيرة العربية في عصورها القديمة، فلم تكن تسمح بالتكاثف السكاني الكبير، في حدود المعلومات المعروفة عنها حتى الآن وبغض النظر عن الدهور الحجرية المطيرة التي سبقت عصور الهجرات التاريخية بعشرات الآلاف من السنين. وإنما الأقرب إلى الظن فيما يبدو هو أن الهجرات السامية الكبيرة لم تكن تصل من شبه الجزيرة إلى مناطق الهلال الخصيب دون أن تمر ببضع مراحل تمهيدية. وذلك بمعنى أن عوامل القحط والجفاف الشديد وضعف الإمارات ونشوب الخصومات وتغير مسالك التجارة كان من شأنها أن تدفع جماعات قبلية صغيرة أو كبيرة إلى التحرك في هجرات بطيئة متقطعة من شبه الجزيرة إلى بوادي الشام وبوادي العراق حيث المعيشة أنسب وآثار القحط أخف وحيث البيئة أقرب إلى بيتها الأصيلة، وحيث هي معتادة عليها في هجراتها الفصلية. فإذا نجحت أمثال هذه الهجرات القبلية المتقطعة في الإقامة بمواطنها الجديدة مع سكانها الأصليين بناء على تراض واتصالات سابقة، أو بناء على القسر والغلبة، تشجعت جماعات قبلية أخرى من جاراتها وألحقت بها، أو مرت جماعات أخرى بنفس ظروفها وكررت فعلتها ...
وتبدأ مرحلة تالية إذا طال توطن هذه الجماعات في بيئتها الجديدة، وساعدتها ظروفها على التكاثر الجنسي والتكاثف المعيشي النسبي، واقترب أهلها شيئًا فشيئًا من أطراف الهلال الخصيب بعد أن سمعوا بخيراتها أو دفعتهم ظروفهم إليها، ثم تعاملوا معها ونهلوا بعض الشيء من أرزاقها ولمسوا رخاءها وطمعوا في أن ينعموا بنصيب منه. وترتبط هذه المرحلة بالأمر الآخر الذي بنينا عليه ما أضفناه على المذهب الثالث في تعليل الهجرات العربية الكبيرة، وهو أنه لم يكن من اليسير على أصحاب هذه الهجرات وأغلبهم من البدو الرعاة أن يسارعوا بتغيير حياتهم إلى مزارعين مستقرين في الهلال الخصيب بعد وقت قصير من نزوحهم عن صحراواتهم.
١ S.A. Hazayyin, Arabia And The Far East, Cairo, ١٩٤٢, ٣ F.