وجدير بالذكر، على سبيل التشبيه الضيق، أن طغيان العوامل البيئية على مقومات الحياة البشرية في بعض مناطق شبه الجزيرة وعمله على تقليل فرص الاستقرار والاستثمار الطبيعي أمام سكانها بقيت بعض آثاره حتى العصر الحديث فيما قبل استغلال النفط. فإقليم الأحساء على سبيل المثال، وهو إقليم ساحلي سبخة كثير المياه والزروع في أحواله العادية، كثيرًا ما تعرضت أرضه المحيطة بالعقير والقطيف، وهي من مناطق الاتصال الرئيسية بين المنطقة الشرقية لشبه الجزيرة العربية وبين جيرانها على الخليج العربي وفي جنوب العراق، لزحف الكثبان الرملية الكثيفة التي قد تغطي مزارعها أحيانًا وتطويها، بل إنها لتكسو حين شدتها أشجار الأثل والنخيل النامية في المنخفضات بحيث لا تظهر منها غير أطرافها١. وتكرار مثل هذه الظاهرة أو اشتدادها في عهود ما قبل الثراء البترولي الحديث، كان من شأنه أن يضيق مجالات الزرق أمام أهل المنطقة ويدفع بعضهم إلى الهجرة منها. ولما كانوا أصحاب مزارع ومياه، فإن العراق الجنوبي الزراعي هو أنسب لهجراتهم من غيره. ولكن يغلب الظن أن أمثالهم ما كانوا يتركون أرضهم في شكل هجرة جماعية كبيرة بسهولة، فأرض الوطن عزيزة على أهلها مهما بلغ من فقرها الطارئ. ولنا أن نفترض أن جماعاتهم الصغيرة كانت تتسرب ببطء تدريجي إلى الشمال مدفوعة بقسوة الظروف. وما كانت مثل هذه الجماعات مهما بلغ عددها لتسمح بتشكيل هجرة تاريخية تجتاز العراق مثلًا وتستقر فيه دفعة واحدة، أو تؤثر فيه تأثيرًا جذريًّا، وإنما كان أهلها يتلاحقون وراء بعضهم البعض على فترات، أسرًا وعشائر، ثم يتفرقون على أطراف العراق أو بالقرب منها، إلى أن تكتمل لهم مقومات مرحلة جديدة يمكن أن تجعل منهم أصحاب هجرة فعلية مؤثرة.
وتبدأ مرحلة ثالثة للهجرات الكبيرة حين يتعرف المهاجرون الطامحون على مواطن الضعف في حدود دويلات الهلال الخصيب المستقرة المجاورين لها، فيبدءوا من ثم يترقبون الفرص، حتى إذا تفككت وحدتها وضعفت قوتها وخفت قبضتها عن حماية ذمارها، لأسباب داخلية أو لأسباب خارجية، تسربوا إليها أسرًا وعشائر وشاركوا أهلها معايشهم، أو اندفعوا إليها قبائل وجيوشًا إذا توافرت لهم الزعامات القوية، ثم تغلبوا على أهلها وسيطروا على أرضهم وحكمهم.
ويمكن افتراض ما يشبه هذه المراحل المتتالية بالنسبة للهجرات الأكد: والبابلية والآرامية حتى نزولها أرض الزراعة بالعراق، وبالنسبة كذلك لهجرات الأموريين "والساتو والأخلامو والخابيرو والعابيرو" والكنعانيين والآراميين حتى نزولهم مناطق الخصب في بلاد الشام.
هذا ولم تخل طبيعة شبه الجزيرة من تأثير في عقائد سكانها الأوائل، فقد ترتب على صفاء سمائها في أغلب أحوالها، وتطلع أهلها إلى طيب السماء وأمطارها، واعتماد قوافلهم السارية بالليل على هادية القمر والنجوم، أن اتجه تدينهم إلى السماء أكثر من غيرها، وحاولوا أن يتقربوا من القوى المتحكمة فيها، وجعلوا القمر والشمس والشعرى على رأس أربابهم العديدين، أو هم بمعنى آخر قدسوا أربابًا تخيلوهم يتحكمون في هذه الكواكب الثلاثة وأطلقوا عليهم ما شاءوا من الأسماء والصفات. وظلت ديانتهم في جوهرها ديانة قمرية
١ See, P. B. Corawall, "Explorations In Hasa", The Geographical Journal, Jan-Feb., ١٩٤٦, ٣ F.