للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أولًا- أنها زكت الروح الحربية وروح النضال المنظم في حياة خاصة المصريين وعامتهم، على الرغم من أنها كانت على حساب بعضهم بعضًا، فأصبح الرجل منهم يفخر في نصوص مقبرته بأنه رب للسيف، وأنه جريء يوم الصدام، وأنه كان شديدًا بقوسه جريئًا بسيفه عظيم الهيبة بين جيرانه. ويرى أن ذلك يزكي سمعته وسمعة أسرته إلى أبد الآبدين. وتلك روح وثابة أضيفت إلى روح العصامية التي تمخضت عنها الثورة الطبقية في نهاية الدولة القديمة.

ثانيًا- أنها زادت من شعور الملوك الطيبيين والأهناسيين، بحاجتهم إلى رعاياهم والتماس تأييدهم، وزادت ما بينهم وبينهم قربًا. وعبر خيتي عن هذا الإحساس وهو يوصي ولده ويزوده بخلاصة تجاربه في الحكم والسياسة، فأوصاه بمبدإ يعتبر من أنبل المبادئ التي تمخضت عنها الثورة الاجتماعية في نهاية الدولة القديمة واحتفظ بها الانتقال، وحضه فيه على أن يقدر الفردية لذاتها قائلًا له: "لا تفرق بين ابن النبيل وابن فقير الأصل، وتخير الفرد بكفايته". وأوصاه بأن يلتزم القدوة الطيبة قائلًا له: "قل الحق في قصرك يخشاك عظماء الأرض، فاستقامة الخلق أليق بالحاكم". ثم أوصاه بالعدالة، وقال له: "إلزم العدل تخلد على الأرض، واحذر أن تعاقب خطأ، فالقتل لن يفيدك، ولكن عاقب بالضرب والحبس، وبذلك تزدهر "أحوال" البلاد، فيما عدا المتآمر، فالإله يقدر خبثه ويطلب دمه جزاء جرمه".

وأراد أن يبين له أن الناس سواسية أمام خالقهم، وأن على الملكية واجبات توازي حقوقها، وأن كل راعٍ مسئول عن رعيته، فقال له: "البشر رعايا الإله، خلق السماء والأرض بما يشتهون، وأجرى المياه دافقة، "من أجلهم". وأرسل لهم النسمات كي يحيوا بها. هم أشباه له، صدروا عن بدنه، وهو يتجلى في السماء ليلبي ما يرغبون فيه. ويخلق العشب والأنعام والطير والأسماك حتى يقتاتوا بها. ويبشر بالفجر لنفعهم، ويعبر السماء ليراهم، وإذا بكوا سمع ولباهم. وهو الذي تعهد الحكام منذ الصغر من أجلهم ورفعهم "درجات" ليكونوا سندًا لظهور ضعفائهم"١. وما نظن أن شعبًا آخر بلغ هذا المبلغ في تكريم الإنسان والاعتراف بحقوق المحكومين في مثل ذلك العصر البعيد الذي سبق عصرنا بأكثر من أربعة آلاف عام.

ثالثًا- أنها كانت من عوامل تشجيع المصريين على إعلان عقائدهم الخاصة وآرائهم في مذهب أسلافهم، بالنقد تارة، والمدح تارة، ورغبة التعديل تارة أخرى. فقد ترتب على اهتزاز الأوضاع القديمة في سبيل البحث عن وضع جديد، كما ترتب على اعتداء بعض الثوار في أواخر الدولة القديمة على الأهرام والمقابر وتخريبهم لها ونهبهم محتوياتها وتعطيلهم شعائرها، بل وجرأتهم على معابد أربابهم أحيانًا٢، أن ظهرت بين المصريين أربعة اتجاهات عقائدية متمايزة: اتجاه متشكك متطرف شك أصحابه في مقومات الخلود التي آمن أسلافهم بها وشادوا الأهرام والمقابر من أجلها، ورتبوا الشعائر والقرابين لصالحها، بل وشكوا في عقيدة الخلود نفسها، واتجاه متطرف آخر يقابله أخذ به المتزمتون الذين برموا بأصحاب الاتجاه الأول ورموهم


١ Op. Cit.,٤٧.F.
٢ Lbid., ١٣٠ F.

<<  <   >  >>