للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بالكفر، وغلب التشاؤم على نظرتهم إلى الحياة الدنيا وأحوالها، ثم اتجاه ثالث محافظ أصر أصحابه على عقائد أسلافهم في الخلود ومقوماته وقرابينه ودعواته وإن لم يأبوا أن يضيفوا إليه جديدًا يزكيه. وأخيرًا اتجاه رابع متطور آمن أصحابه بأن الخلود حق لا شك فيه ولكنهم آمنوا في الوقت نفسه بأن سعادة الفرد في أخراه ليس من الضروري أن ترتبط ببناء المقابر الفخمة أو مواصلة تقديم القرابين وترتيل الدعوات وإقامة الطقوس التقليدية، بقدر ما ترتبط بصلاح أعمال الإنسان في دنياه وإيمانه بعدل أربابه في أخراه مع أدائه واجباته إزاءهم في الوقت نفسه.

وبدأ تيار التشكيك منذ أيام الثورة الطبقية، وعرب عنه إيبوور حينذاك بقوله: "يقول المنفعل: لو علمت أين الرب لعملت له"١. ثم استمرت موجة الشك في طريقها، وخلف بعض المتشككين والناطقين بلسانهم مواويل سائرة كانوا يرددونها في تنغيم، ويدعون المترفين فيها إلى التمتع بمباهج الحياة الدنيا ما وسعهم إلى ذلك من سبيل، دون قلق على الآخرة وما يصيبهم فيها. ويمكن ترجمة بعض فقرات هذه المواويل بأسلوب عادي يتفق مع أسلوب أصحاب الموال المعاصر، مع تصرف يسير٢. فقد ردد أحد رواتها مواله على أنغام الجنك في حفل أقيم لذكرى أمير عزيز، قائلًا بعد أن مدح صاحب الذكرى " ... أجساد تروح وأجساد جاية من زمن الأوائل. ياما سمعنا الكثير من كلام الحكما أمثال إيمحوتب وددف حور. لكن فين الحكما، وفين ديارهم؟ انهدت جدرانهم وطاحت مساكنهم، وما عاد منها كيان، راحوا وما عاد منهم حد، راحوا وما حكى لنا عن حالهم حد، ولا حكى لنا عن مطالبهم حد، ولا طمنا عليهم حد. افرح، وخل قلبك ينسى يوم نعيك، وارض نفسك طول العمر، ادهن رأسك والبس الكتان وتعطر، تمتع بيوم الهنا ولا تمله، ما حد راح وخد معاه حاجة، وما حد راح وعاد تاني. اللي مات قلبه ما سمع صراخ حد، والنعي ما خلص من الآخرة حد"٣.

وبدأت الموجة المناقضة للأولى، أي موجة التزمت والتشاؤم واليأس من الدنيا، منذ أيام الثورة أيضًا، وعبر إيبوور عن ظهورها بانتحار بعض الناس غرقًا، وسخط الأطفال على ولادتهم، ورغبة الجميع في فناء العالم كله حتى تستريح الأرض من الضجيج على حد قوله. واستمرت هذه الموجة في طريقها، وعبر عنها بعد ذلك حوار سجله أديب مصري على بردية بين رجل سئم عيوب الحياة في عصره، وبين روحه، جاعلًا الروح تتحدث في هذا الحوار كأنها شخص مستقل. وبدأت المناقشة بين الرجل وروحه


١ Pap. Leiden, ٣٤٤, V, ٣.
٢ Pap. Harris ٥٠٠, Vi, ٢-Vii, ٣ And Variants, See, M. Lichtheim, Jnes, Iv "١٩٤٥", ١٧٨ F., ١٩٢, F., ٢١١ F.
٣ A. Erman, Gesprach Eins Lebensmiden Mit Seiner Seele, ١٨٩٦ ; A. Scharff, Der Bericht Uber Das Streitgesprach Eines Lebensmuden Mit Seiner, Munchen, ١٩٣٧ ; R.O. Faulkener, Jea, ١٩٥٦, ٢١ F.
عبد العزيز صالح: "الحوار في الأدب المصري القديم" – المجلة، العدد التاسع – سبتمبر ١٩٥٢، ص١٦ - ٢٨.

<<  <   >  >>