للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكالمألوف من مصادر التاريخ القديم، اهتمت نصوص العصر ومناظره بإظهار الجوانب الطيبة وحدها من شخصيات الفراعنة، ولم تشذ عن ذلك في غير القليل النادر، ولسنا ننفي احتمال الافتعال فيما أتت به هي وأمثالها عن ملوكها، ولكننا لن نستطيع أن نحرمها في الوقت نفسه من إثارات صدق كثيرة أو قليلة زكتها أعمال أصحابها. وهكذا، وبغير أن نتقيد تمامًا بحرفية رواياتها، صورت هذه المصادر بعض فراعنتها قريبين كل القرب من قلوب رعاياهم، حتى لقد أنزلوهم منازل القديسين بعد وفاتهم، ومنهم أحمس رأس الأسرة، وولده أمنحوتب الأول الذي رأى أهل طيبة في مناقبه ومناقب أمه أحمس نفرتاري ما دعاهم إلى التبرك بتصويرهما داخل مقابرهم وتقديم الابتهالات لهما لبضعة قرون بعد وفاتهما. وتحوتمس الثالث الذي لم تحل طبيعته العسكرية دون أن يصفه وزيره رخميرع بأنه "كان أبًا وأمًّا للناس أجمعين"١. وأن يشهد رفيق صباه "من خبر رع سنب" برقة إحساسه وذوقه حين أشار إلى أنه كان يقضي بعض ساعاته في ابتكار تصميمات ورسوم لأوانٍ فاخرة وهيئات تماثيل صغيرة كان يهديها إلى معبد آمون ويكلف فنانيه بتنفيذها، ولم تصرفه حروبه الطويلة عن أن يوصي بجمع الزهور والنباتات النادرة والطيور المختلفة من أرجاء دولته الواسعة وتربيتها في مصر٢، وقد أهدى بعضها إلى حديقة الكرنك وأوحى بنقش صورها المتنوعة في قاعة ملحقة به٣. ثم آخناتون صاحب دعوة التوحيد الذي اعتبره أنصاره نبيًّا، أو أكثر من نبي، والذي سلك سبيله إلى قلوب أتباعه بالمنطق والقدوة الطيبة، وسارع بنفسه وزوجته وبناته إلى معابد العاصمة يؤم العبادة ويرتل الدعوات، وابتعد بنفسه وبآل بيته عن مظاهر التزمت الملكي التقليدية وخرج بهم على أهل العاصمة يرونه ويرونهم على ما هم عليه. وفتح مغاليق حياته الخاصة للمثالين والرسامين. فصوروه في بشريته الخالصة، وفي فرحه وحزنه، وعبثه وجده، وما ابتلي به من أعراض المرض وعيوب البدن. وإن اعتبره خصومه على الرغم من ذلك كان ... ثم أنصفه التاريخ واعتبره فيلسوفًا.

وعادة ما ازداد تمسح أولئك الفراعنة بالدين وكرامات آمون رع كلما أحس أحدهم بشبهة يمكن أن تمس شرعية ولايته للعرش، وحينئذ يسارع إلى تأكيد تدخل آمون رع رب الدولة بنفسه في اختياره، أو يسارع بتأكيد بنوته المباشرة له نتيجة لتقمصه روح أبيه حين أنجبه. وعبرت عن هذه الادعاءات أربع روايات للفراعنة: حاتشبسوت وتحوتمس الثالث وتحوتمس الرابع وأمنحوتب الثالث. وكانت حاتشبسوت ابنة للفرعون تحوتمس الأول من زوجة رئيسية، وكان المفروض أن تخلفه على العرش، لولا أن سوابق حكم الملكات في مصر القديمة لم تشجعه ولم تشجعها على إعلان تتويجها دفعة واحدة فزوجها من أخ لها غير شقيق ولد له من زوجة أقل مرتبة من أمها وولي العرش بعده باسم تحوتمس الثاني. ونجحت هي في أن تؤكد شخصيتها في عهد هذا الزوج وعلى حسابه وأن تمهد لخلافتها إياه. ثم حالفها الحظ واختطفه الموت بعد أن أنجب منها بنتين وأنجب ولدًا من زوجة أخرى، ولكنها آثرت الحذر مرة أخرى، فلم تعلن نفسها


١ Zaes, LX, ٦٦.
٢ Breasted, Ancient Records, II, ٥٤٥, ٧٧٣, ٥٥٧.
٣ Urk., IV, ٧٧٥ F.; Wresz., Atlas, Ii, ٢٦ F.

<<  <   >  >>