للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الفرع التانيسي للنيل١ "قرب عاصمة الهكسوس القديمة"، وكانت بهذا ذات موقع مناسب يتوسط دولة الرعامسة في مصر والشام، ويسمح بوجود احتياطي عسكري كبير فيها يمكن أن ينجد الحاميات الشمالية على جناح السرعة في عصر اشتدت فيه أخطار الحيثيين وشعوب البحر، وذلك فضلًا عما توافر لها من إستراتيجية حيوية ودفاعية مقبولة؛ نظرًا لإشرافها على الفرع التانيسي للدلتا وإمكان وصول السفن البحرية الصغيرة إليها، وإمكان استغلال الفيضانات في حمايتها من ناحية البر حين الضرورة، وحماية ظهيرها بمناقع الدلتا الشمالية من ناحية البحر. وربط بعض المؤرخين بين الجهود التي بذلت في إنشاء هذه المدينة وبين ما روته قصص الخروج في التوراة من تسخير فرعون موسى للعبرانيين في إنشاء مدينة ضخمة في أرض جوشن بشرق الدلتا، وهو ربط لا يزال في مرحلة الفروض.

وعمر رجال رمسيس مدينته بتماثيل ومعابد كثيرة أغلبها جديد قطعوا أحجاره من محاجرها، وبعضها تخيروا تماثيله ومسلاته وأحجاره من معابد الوجه البحري ومصر الوسطى وبعض معابد الصعيد. وسجلوا اسم ملكهم على هذه وتلك، وتبعهم في هذه السنة خلفاؤهم في عصر الرعامسة بالنسبة لملوكهم، الأمر الذي يدعو إلى الحكم على تصرفهم هذا بأحد أمرين: إما دمغهم ودمغ فراعنتهم بالسرقة والاعتداء على آثار الغير في سبيل إضفاء الفخامة ومظاهر الثراء على عاصمتهم حديثة النعمة سريعة التكوين، وإما أن نلتمس لهم مبررات تناسب عصرهم وظروفهم دون أن نبرئهم البراءة كلها، ومن هذه المبررات أن الغزاة الهكسوس قد سبقوهم إلى انتحال بعض هذه التماثيل والآثار لأنفسهم بعد أن محوا منها أسماء أصحابها، فاستردها رجال رمسيس وسجلوا اسمه عليها باعتباره الوريث الشرعي لأصحابها الأصليين الذين عز على رجاله أن يتعرفوا على أسمائهم، ثم أكرموها بوضع أغلبها في معبد الإله آمون الذي توسط العاصمة الجديدة وقام فيها بدور معبده الكبير في طيبة. وليس من المستبعد أنهم وجدوا بعض العمائر القديمة التي استخدموا أحجارها مهدمة مهملة بالفعل، فاعتبروا استعمالها أفضل من تركها على حالها، ووجدوا تسجيل اسم فرعونهم عليها أمانًا لها من الاعتداء والإهمال. وإن كنا لا ننكر أخيرًا أن كل هذا المبررات كانت تخدم غرضًا أكبر، وهو إشباع شغف رمسيس بالعمائر والتماثيل عن أقرب سبيل، في الدلتا وفي الصعيد أيضًا، ما دامت التقاليد قد جعلته صاحب التصرف الأول في عصره وممثل الأرباب والأسلاف في أرضه.

وعلى أية حال، فلم ينل مجد العاصمة الجديدة كثيرًا من أمجاد العاصمتين القديمتين منف وطيبة. فاحتفظ الرعامسة بقصورهم في منف، وزادوا عمرانها، كما ظلت معابد آمون رع في طيبة تحظى بأكبر قسط من رعاية الدولة وثرائها، مما سنعرض نماذجه في حديثنا عن تطور الفنون في الدولة الحديثة، ويكفي أن نشير هنا إلى ضخامة آثار هذا العهد، وفي طيبة بالذات فضلًا عن غيرها من مدن القطر، تدل ضمنًا على ثراء واسع تمتعت الدولة به، وإن كنا للأسف لا نستطيع أن نربط بينه بالضرورة وبين رخاء عام يقابله تمتع به الشعب في مجمله.


١ See. Kemi, Iv, ١٩٩ F.; Gardiner, Anc. Egyptian Onomastica, Ii, ١٧١ F.; Asae, Xxx,٣١ F.; Lii, ٤٤٣ F.

<<  <   >  >>