للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لمنع التقدم إليها، واستعان جنوده بسفن حلفائه الذين سلموا بحكمه من الأقاليم المصرية، وحلوا أمراس سفن منف المشدودة إلى جدران بيوت مينائها، واستولوا عليها واستخدموها في نقب أسوار المدينة ومنع الاتصالات بينها وبين جيرانها. وكانت لبيعنخي تصرفات بارعة في مجال التأثير النفسي، ومنها إظهار التمسك الشديد بتعاليم الدين، بحيث أبى أن يصافح جماعة من الأمراء الليبيين لأنهم غير مختتنين وغير متطهرين ويأكلون أنواعًا من السمك يأباها الدين، ويبدو أنهم أرادوا تمثيل أقاليم الصعيد والدلتا في إظهار الولاء له، ولم يقابل منهم غير نمرود. وبمثل نصائحه التي أسلفناها والتي حض جنوده خلالها على الاغتسال والتطهر والتواضع وتوقير حرمات آمون، ثم بإظهار شغفه بزيارة المعابد الكبرى كأنه متشوف للحج إليها من زمن بعيد، وإظهار الرفق الشديد بحيوانات أعدائه لا سيما الخيول، بحيث كان يتفقد بنفسه اصطبلات المدن المفتوحة، وبحيث عنف خصمه نمرود حاكم منطقة الأشمونين تعنيفًا شديدًا على عدم رعايته لخيوله. وكل ذلك مع إظهار شيء من التسامح مع بعض الخصوم كإبقاء الأمراء المحليين على مناصبهم ما داموا قد أظهروا الطاعة له، حتى تاف نخت نفسه أبقاه أميرًا على سايس وعفا عن ولده بعد إحدى المعارك في اللاهون حين اعترف له بالأمر الواقع من سلطانه. ومن اللوحات التي سجلت نصر بيعنخي لوحة صور فيها أمام الثالوث الإلهي لطيبة، وعن يمينه سيدة قد تكون زوجته أو زوجة نمرود، يتبعها نمرود يرفع أداة السيستروم ويقود فرسًا، وفي نهاية اللوحة تصوير لثلاثة من الأسر المالكة السابقة وبينهم وساركون يقبلون الأرض بين يديه، ويحتمل أن يكون قد قسم سلطات الدلتا بينهم، ثم عدد آخر من الرؤساء الإقليميين. ونفذ بيعنخي رغبة بدأها أبوه واستهدف منها تدعيم امتيازات أسرته في طيبة، فعمل على تعيين أخته "آمون رديس" كبيرة لكاهناتها وحرمًا مقدسًا لإلهها١، وهنا لم تسمح له سياسته المرنة بأن يقيل شاغلة المنصب شبتن وبة بنت وساركون الأخير من أجلها وإنما جعلها تتبناها حتى تصبح وراثتها لمنصبها ذي الثراء العريض والنفوذ الروحي الكبير وراثة سليمة مشروعة. ويبدو أنه سمى انتبه شبتن وبة وجعل أخته تتبناها لترث سلطانها من بعدها. وكانت أمثالهن يترهبن لآمون بحكم منصبهن ويدفن بعد الموت في منطقة دير المدينة. وفي ظل هذه الأوضاع أعلن بيعنخي نفسه فرعونًا مصريًّا، وعاد إلى نباتا حيث سجل أخباره السابقة على نصب كبير في معبد آمون فيها.

وهنا استغل تاف نخت "شبسرع" صلب العود فراغ الميدان الداخلي لمصلحته، فاسترجع سلطانه في الدلتا والأقاليم القريبة منها، واستعاد ألقاب الملكية. ولأمر ما تفاداه بيعنخي، ولم يقاومه، ربما لإحساسه بأنه أدى واجبه إزاء مصر وكفى، أو لشعوره بشعبية تاف نخت بين أتباعه وصعوبة قهره. واستمتع هذا الأخير تاف نخت بسلطانه في عاصمته سايس عدة سنوات٢، وظلت أسرته الرابعة والعشرون تعاصر أسرة بيعنخي الخامسة والعشرين، دون أن تنجح إحداهما في لم شمل مصر كلها تحت رايتها، وإن حاولت كل منهما أن تعمل باسم مصر من ناحيتها. فالتفتت أولاهما، على الرغم من متاعبها الداخلية، إلى جارتها فلسطين. وكان قد سعى إلى التحالف معها "هوشع" ملك السامرة عاصمة العبرانيين الشمالية، فقبلت


١ يتراوح الرأي عن تنفيذ هذا الإجراء بين عهده وبين عهد أبيه.
٢ Spiegellberg, Rec. Trav., Xxv, ١٩٠ F.

<<  <   >  >>