للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واستفادت تماثيل كبار الأفراد بالاتجاه الجديد، فأخرجت مدرسة طيبة تمثالين لحاكمها المحلي "مونتومحات" مثله أحدهما واقفًا في انتصابة تشبه انتصابة تماثيل الدولة القديمة وطابعها المترفع، وكست وجهه بجدية صارمة عبرت بها عن عزيمته التي واجه الشدائد بها في عصره. ثم أظهره تمثاله الآخر الذي لم يبق منه غير رأسه الضخمة وجزاء من صدره، في ملامح شخصية ناطقة وشعر طبيعي ناعم مرسل، وذلك في إتقان بالغ جعله آية من آيات النحت المصري كله. وكان منتومحات فيما يبدو كاهنًا رابعًا لآمون استطاع أن يغطي بشخصيته على مكانة الكاهن الأول في طيبة، وكان أبوه وزيرًا وجده عمدة لطيبة. وقد بلغ من أمره أن ذكرته النصوص الآشورية فيما بعد بلقب ملك طيبة، وإن قاسمته السلطان في طيبة كبيرة الكاهنات الحرم المقدس لآمون شبتن وبة الثانية. ونحت مثالو المدرسة نفسها بضعة تماثيل واقعية لرجل من البلاط يدعى "حاروا" أظهروه فيها بعيوبه البدنية، فصوروه بوجه ممتلئ كوجه الطفل، وجسم مكتنز يترهل ثدياه كثديي الأنثى.

وإلى جانب الكلف بإحياء التراث القديم، أضاف الكتبة المصريون خطًّا جديدًا منذ أوائل القرن التاسع ق. م يزيد اختصارًا وتخففًا من الصور عن الخط الهيراطي، وتكتب أغلب كلماته كما ينطقها الناس فعلًا. وكانت هذه الخاصية الأخيرة فيه أحد أسباب الإغريق له بالخط الديموطي، أي خط الجمهور، أو الخط العام.

كان تاهرقه فيما دلت الأحداث كفئًا لأحداث عهده، ومن أطرف ما أتت نصوصه به إشارة ضمنية إلى زيادة فيضان النيل في إحدى السنوات نتيجة لغزارة الأمطار في الجنوب، وكانت هي المرة الأولى التي علل المصريون الفيضان فيها بهذا التعليل المقبول١. ولكن يبدو أن البنيان السياسي والداخلي لمملكة تاهرقه لم يعد سليمًا؛ وأنه لم يبلغ العرش إلا بعد تنافس مرير مع عمه أو أخيه ومع خصومه، وإذا صح ذلك كان فيه مصداق لرواية إشعيا عن ربه وهو يحض العبرانيين على عدم مخالفة مصر والرضا بالخضوع للآشوريين في قوله: "أهيج مصريين على مصريين فيحارب رجل أخاه ورجل صاحبه، مدينة مدينة ومملكة مملكة ... ". ومع هذه الأوضاع القلقة ومع ضعف الحلفاء الخارجيين لم يكن من المتوقع أن تصمد مصر طويلًا في مواجهة الآشورين بعد أن بلغوا ما بلغوه حينذاك من توسع وعنفوان، وكان عليها أن تواجه سنة الحياة في شيخوختها الثالثة، وأن تتلقى جزاء تهاونها في أمر نفسها. وقد بلغ الأمر مداه حين جند الملك الآشوري آشور أخادين كل إمكانياته لمهاجمة مصر وجهًا لوجه باعتبارها آخر مناطق الشرق القديم بعدًا عن نفوذه، وأملًا في القضاء على ما بقي لها من قدرة على المنافسة الحربية، وطمعًا في ثرائها، وليقطع معونتها عن حلفائها في سوريا وفلسطين. وقد مر مشروعه ضدها في مرحلتين: مرحلة هاجم فيها حدودها الشمالية الشرقية في عام ٦٧٤ق. م، ولكنه هزم بجيشه في معركة دموية كما روت المصادر البابلية. ثم مرحلة ثانية بلغ فيها رفح وسيل مصر في عام


١ Cf., V. Vikentiev, Rec. Tr. De La Faculte Des Lettres, Univ. Egyptienne, ١٩٣٠.

<<  <   >  >>