للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إلى وطنه. "وليس من المستبعد أن يكون المصريون قد اعتبروا هذه الأحداث انتقامًا إلهيًّا منه".

ووقع عبء مواجهة الثورة المصرية على خلفه العنيف آشور بانيبال١، وقد عبر عن غيظه بقوله "وصل رسول سريع إلى نينوى وأبلغني النبأ فغضبت جدًّا لهذه الأحداث واشتعلت نفسي ورفعت كفي إلى آشور وإشتار ... " وبعد أن اطمأن إلى استقرار أموره الداخلية خرج بجيشه في عام ٦٦٦ق. م، وأجبر عددًا من أمراء الفرات والشام وفلسطين على مصاحبته بقواتهم، وكانوا كما قال اثنين وعشرين ملكًا. واستعان بخبراتهم الملاحي وهاجم مصر بهم من البر والبحر، وتلاقى بقواته مع جيوش تاهرقه في معركة وصفتها النصوص الآشورية بأنها معركة مكشوفة رهيبة، أحرز ملكهم النصر فيها. وانسحب تاهرقه إلى الجنوب على متن النيل مع قلة من قواته ولكن عز عليه أن يصطحب معه أغلب أساطيله النيلية المقاتلة فاستولى الآشوريون عليها وشجعهم ذلك على أن يستعينوا بأصحاب المهارة الملاحية من أهل الفرات والشام في تتبعه إلى طيبة أحد معاقل القومية المصرية العتيدة. وأعاد آشور بانيبال بعض الأمراء المصريين إلى حكمهم اللامركزي وإماراتهم الإقليمية، واطمأن إلى قوة سلطته وقال في نصوصه: "وهكذا استعدت الإشراف على مصر والنوبة، وزدت الحاميات عن ذي قبل؛ وجعلت تنظيمها أشد إحكامًا وقوة، وعدت إلى نينوى سالمًا بكثير من الأسرى وبغنيمة طائلة". ولكن خاب ظن الملك؛ فجيوشه لم تر النوبة التي أدعى سيطرته عليها؛ وما لبث أمراء مصر أن فاقوا إلى وطنيتهم وقالوا لأنفسهم فيما روت عنهم المتون الآشورية: "إذا كان تاهرقه قد أبعد عن مصر فأي بقاء لنا بعدد؟ وأرسلوا رسلهم على الخيل إلى تاهرقه يقولون له: دعنا نتصافح ونصل إلى حل مقبول، ونشترك في إدارة البلاد معًا حتى لا يكون بيننا حاكم أجنبي". ولكن حدث لسوء حظهم أن اكتشف الآشوريون تدبيرهم فقبضوا على رسلهم، وأعملوا السيف في مدنهم: "ولم يستثنوا واحدًا من تانيس والمدن الأخرى التي تعاهدت على الثورة، فشنقوهم على السرايا وسلخوا جلودهم وغطوا بها أسوار المدن" وأرسلوا زعماء الثورة إلى نينوى حيث أهلكوا جميعًا ولم يستثن آشور بانيبال منهم غير أمير سايس "نيكاو" ربما باعتباره وريث الأسرة الرابعة والعشرين وسليل أكبر بيت منافس لبيت تاهرقه، فابقى عليه وقربه إليه وخلع عليه وسلمه عددًا من أختامه وأهداه هدايا مرقومة باسمه، وعين ولده "بسماتيك" أميرًا على مدينة أتريب في شرق الدلتا. ولعله أراد أن يستعين بكفايتهما في ضمان خضوعها، وسوف يكون لهذا الولد شأن في مقاومة الآشوريين بالذات.

ولم تنقطع محاولات المصريين للتحرر، على الرغم من هذا التدبير، حتى ممن أعلنوا الطاعة لآشور بانيبال وانضموا إلى جيشه مكرهين، فتحدثت سطور قليلة باقية من أحد نصوصه عن والٍ مصري لم يعتبر، على حد قولها، بالمعاملة الشديدة التي لقيها الأمراء المصريون الذين سبقوه إلى الثورة، فسمعه الضباط الآشوريون وهو يسر بخطته إلى جماعة من إخوانه المصريين انتحوا معه ناحيه عن مقدمة الجيش الآشوري، وقد أجابوه بأنهم على استعداد لتنفيذها بالليل٢. وكانت عاقبته وعاقبة زملائه معروفة بطبيعة الحال.


١ See, Op. Cit., Ii, ٧٧٠ F.: M, Streck, Assurbanipal Und Die Letzten Assyrischen Konige. Bis Zum Untergang “V. A. B., Vh” ١٩٦١, Ii, ٢ F.; J. Schawe, A. F. O., X “١٩٣٥-١٩٣٦”, ١٧٠.
٢ Th. Bauer, Das Inschriftwerk Assurbanipals, ١٩٣٣, I, Pl. ٦٠; Ii, ٥٦.

<<  <   >  >>