للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وظن بسماتيك أنه حقق التوازن في جيشه بالاستعانة بالمرتزقة الإغريق أصحاب العزائم الجديدة وأبناء البلاد البعيدة التي لا يخشى من استغلالها لوضعهم في جيشه، وذلك في مقابل المرتزقة الآخرين الذين تبعه بعضهم وتبع بعضهم الآخر الأمراء الذين نافسوه في بداية عهده، ثم لتزويد جيشه بدماء جديدة بعد أن استرخت همم المجندين المهجنين والمرتزقة من الصحراء والواحات الليبية ومن النوبة، وأمثالهم، واستناموا إلى العقارات الزراعية والمرتبات التي خصصتها الدولة لهم، أي أنه عالج الخطأ بخطإ آخر واتخذ من خطئه الجديد حرسًا خاصًّا وحاميات للحدود، ومنها حامية في حصن دفنة على الصحراء الشرقية، وهو حصن ذكره سفر إرميا بما يعني حصن البرابرة١. وفي ماريا قرب مريوط على بداية الحدود الغربية، وفي إلفنتيني عند أسوان. وتوافد في أعقاب هؤلاء المرتزقة أعداد من التجار الإغريق عملوا لحسابهم في مصر، ووسطاء بينها وبين بلادهم، في تجارة الغلال والفضة والمصنوعات الدقيقة والفنون. وهنا روى هيرودوت أن بسماتيك أوصى بتكوين طائفة من التراجمة لتيسير التفاهم بين الوافدين الإغريق وبين هيئات الجيش والبلاط والإدارة فضلًا عن أغراض التجارة والزيارة، وكان نواتها عدد مختار من الشبان المصريين النابهين٢.

وعند وفاة بسماتيك، كان الأمور قد مضت سريعة في الشرق الأوسط، فقضى البابليون والماذيون على كيان آشور "راجع فيما بعد". وطمعت بابل في أن تستعيد الأملاك الآشورية الغربية في الشام لحسابها، ولكن مصر اختطت نفس الخطة لصالحها في عهد نيكاو الثاني "وحم إب رع" "٦١٠ - ٥٩٥ق. م" وقدرت طموح بابل، فبادرت بالخطوة الأولى، وخرج نيكاو بجيشه إلى فلسيطين في عام ٦٠٨ فشق الجيش طريقه دون معارضة تذكر، وعندما اعترضه حاكم أورشليم اليهودي يوشيا أنذره بالحسنى ولكنه لم يرعو ففتك به في مجدو٣. ثم تابع مسيرته في أواسط سوريا وشمالها، وأحرز نجاحًا ضد البابليين قرب قرقميش عند كيموخو وقوراماتي اللتين ذكرتهما النصوص المصرية عند الفرات، وربما عاون حينذاك بقايا الآشوريين بقيادة آشور أو بالليط. وبهذا استعاد الإشراف المصري على أجزاء واسعة من الهلال الخصيب فيما بين عامي ٦٠٨ و٦٠٥ق. م. وعاقب نيكاو أورشليم مرة أخرى فعزل حاكمها ابن القتيل وعين بدله أخذه إيليقيم الذي غير اسمه إلى يهو ياقيم، ليكون تابعه، وألزمه بجزية ضخمة٤. ثم بدأت المقادير تسلك وجهة أخرى منذ أن عهد الملك البابلي نابو بولاسر بجيوشه إلى ولده "نبوخذ نصر" "نابو - كدوري - أوصر" وكان كفئًا لمواجهة الموقف من وجهة النظر البابلية، ولكن نيكاو المصري تجاهل هذه الحقيقة وركبه الغرور، فترك المبادة وتوقف بجيشه طويلًا عند نهر الكلب حتى يسجل له رجاله أخبار نصره وآيات تمجيده، فكانت فرصة لولي العهد البابلي دعم جيشه فيها وتخير موضع معركته فتيسر له النصر عند قرقميش في عام ٦٠٥


١ إرميا ٢: ١٦، ٤٣: ٥ - ٧.
٢ H. Rodotus, Op. Cit., ١٥٤, ١٦٤.
٣ الأيام الثاني ٣٥: ٢٠ - ٢٥. Yoyotte, Nechao, ٣٧٢.
٤ الملوك الثاني ٢٣ - ٣٥ الأيام الثاني ٣٦: ٣ - ٤.

<<  <   >  >>