للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من هذه الهندة وسعى برجاله لضمان الخطوط الأمامية في فلسطين، ومضى في هذه الخطوة الأخيرة على مهل، وحدث حين تنفيذها أن وصلت طلائع هجرات السكيثيين إلى جنوب الشام، وهي جزء من هجرات آرية خرجت من أوساط آسيا وهددت حدود آشور وخربت مدن آسيا الصغرى وتسرب بعضها جنوبًا عبر الساحل إلى فلسطين حتى عسقلان، وكان أهلها غزاة جوابين غير مستقرين، فاستغل بسماتيك هذه الصفة فيهم ولم يشأ أن يستهلك قواته الحربية معهم فأرضاهم بالعطايا حتى عادوا أدراجهم إلى نواحي آسيا١. ثم تفرغ بسماتيك لمشروعه الخارجي ومضى فيه حتى أتم فتح مدينة أشدود الحصينة حوالي عام ٦٢٠ق. م بعد مجهود طويل، ومنذ ذلك الحين أصبح سيد الموقف في بلده وعلى حدوده، بل وبدأت مصر تمد العون للآشوريين في نكباتهم المتلاحقة أمام البابليين والماذيين، دفعًا لخطر هذين الأخيرين على الوضع القائم في الشرق القريب.

وطال عهد بسماتيك خمسة وأربعين "أو أربعة وخمسين" عامًا شغلت أغلبها فرحة التحرر من الغزو الآشوري واستعادة وحدة البلاد وعودة الأمن إلى أرضها. وانعكس ذلك على نواحي الحياة الداخلية كلها، فاشتدت الإشادة بالقومية وبعراقة الأصول؛ وكان من وسائلها إحياء تقاليد الدولة القديمة في اللغة والدين، وإحياء أساليب الدولتين القديمة والوسطى في فنون النقش والتصوير والنحت، مما سنعود إلى ذكره في ختام هذا العصر، ولما كان النصر يرد عادة إلى التأييد الروحي من الأرباب والمساهمة المادية من معابدهم كما يرد إلى الملوك بخاصة؛ فقد كانت النتيجة الطبيعية بعد إحراز النصر هي رد الفضل لهؤلاء وهؤلاء مضاعفًا عن طريق الإسراف في إقامة المعابد وتوابعها، وإقامة القصور والمسلات والتماثيل ورصد الهبات والأوقاف بأسماء الآلهة والملوك. وكان نصيب مدن الوجه البحري ومعابده من تجديدات العصر أكثر من نصيب الصعيد، بحكم وجود عاصمة الدولة فيه، فنشطت الإشادة بأربابه لا سيما نيت ربة سايس، وبتاح رب منف، بل ورمزه الحيواني أبيس، حتى طغت سمعتهم على سمعة أرباب الصعيد فيما خلا آمون رع الذي احتفظ بمكانته كإله أعلى للدولة.

أسلفنا أن العصر الجديد بدأ، كغيره من العصور، برفع طبقات وخفض أخرى، وإضعاف أسر إقطاعية وتدعيم أخرى، تبعًا لميول الحاكم ومدى ما يلقاه من تأييد أو معارضة من طبقة أو أخرى وللحد من تضخم ثراء الإقطاعيين الجدد من مدنيين ودينيين. وسلك بسماتيك سنة اتبعها خلفاؤه، وهي الإيحاء إلى كبار أولئك الإقطاعيين بالتبرع بجانب من ثرواتهم العقارية للمعابد التي تحتضنها الدولة، مع استمرار الدولة في الوقت نفسه على سياسة خلع المناصب الكهنوتية التشريفية على المقربين إلى الملك حتى يستفيدوا من مخصصاتها ويقللوا من تضخم ثروات معابدها واحتكارات كهنتها، ولا يثقلوا في الوقت ذاته على ميزانية الدولة بأعباء كبيرة٢. وبتعبير آخر يمكن القول بأن أولئك الملوك أشعروا الإقطاعيين المتبرعين بأن حكومتهم لا تبغي أن تقاسمهم ثرواتهم لصالحها الخاص وإنما لصالح الأرباب، كما أشعروا أنصارهم أصحاب الإنعامات الجديدة بأن إنعاماتهم عارية بمكن أن تعود ثانية إلى الأرباب.


١ Herodotus, I, ١٠٥; Ii, ٣٠, ١٥٣-١٥٤, ١٥٧; Iv, ٤٦.
٢ H. Ranke, Op. Cit.; H. Kees, Zur Innenpolitik Der Saitendynastie, Ngwg, ١٩٣٥, ٩٦ F.

<<  <   >  >>