للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولما كانت مقادير الشرق قد أصبحت مرتبطة بما بين الإغريق والفرس ومصر، ظهر رأيان متعارضان رددهما فريقان من بلاد الإغريق في خضم النزاع بين مقدونيا الناهضة بزعامة فيليب الثاني وبين أثينا العجوز الواهنة، بشأن مدى المنطقية في التعاون مع مصر على قتال الفرس. وعبر أرسطو عن الرأي الأول بلسان مقدونيا وأيد فيه منطقية مساعدة المصريين حتى لا يقعوا ثانية فريسة للفرس، ونبه قومه إلى أن دارا وإكسركسيس لم يتمكنا من قتال الإغريق إلا بعد إخضاع مصر، وأنه لا يستبعد حدوث الأمر نفسه إذا تكرر استعمار الفرس لها من جديد. وذهب إلى ضد هذا الرأي خطيب أثينا الأشهر ديموسثينيس فسخر ممن يريدون حرب الفرس في مصر، ودعاهم إلى أن يقفوا في أطماع الغول المقدوني في أرضهم قبل أن يقفوا في وجه الفرس١.

ونعود إلى مصر التي ولي عرشها ابن الأخ "مخت حرحب" "سنجم إب رع"، أو نكتانبو "الثاني" كما دعاه بعض المؤرخين الكلاسيكيين٢، فأخرص الأصوات الباقية على الولاء لعمه، وأرضى الكهنة المتذمرين، وأعاد الإسبارطيين بالهدايا، وقد مات قائدهم العجوز في الطريق. ثم رد بالجيش المصري هجومًا حاول الفرس أن يستغلوا له ما كان من تفرق الكلمة في بلده، وترتب على انتصاره عليهم أن انقلبت مدن فينيقيا ضدهم وتزعمتها صيدا التي قيل إن جدحر الملك المخلوع قد لجأ إليها، وبهذا ظن نخت حرحب أن زمانه صفا له وأن الأمن تحقق له في الداخل وفي الخارج، فكثر إنشاء العمائر الدينية في عهده تخليدًا لذكره وإظهارًا لتقواه وتعبيرًا عن الشكر المعتاد للأرباب ومداراة للكهنة.

وحتى هذه المرحلة كانت مصر لا تزال تعتبر نفسها في نهضة، ولا تزال عند الإغريق كعبة للمعرفة والعلم القديم، وحسبنا أن نشير إلى ما رواه بعض المؤرخين الكلاسيكيين من أن الفيلسوف الأثيني الأشهر أفلاطون قد زار مصر في أوائل القرن الرابع ق. م ليتعلم فيها الحكمة واللاهوت والعلوم، وتتعرض صحة هذه الزيارة للشك ولكن يكفي ما في روايتها من دلالة على تقدير العالم الخارجي لمصر حتى وهي في أيام محنها. وانعكست مشاعر العصر وآماله ونكساته على فنونه التي نكتفي باستعراض القليل منها. فقد انتقلت إلى حوزة المتحف المصري والمتاحف الأوروبية، ومتحف برلين بخاصة، رءوس مصرية صغيرة من أحجار صلبة رائعة، اختلف الباحثون في توقيتها بين عصر الأسرة السادسة والعشرين وبين عصر الأسرة الثلاثين، واتصفت ملامح هذه الرءوس باتساع ما بين الأنف والشفة، وتقطيب ما بين الحاجبين، وكرمشة الركن الخارجي للعين٣. وظهرت بهيئة تشبه هيئة الرءوس الإغريقية والرءوس الرومانية التي أتت بعدها بأجيال طويلة. ولا تعني هذه المشابهة أن فناني الرءوس المصرية كانوا إغريقًا أو متأثرين بفن الإغريق أو الرومان بالضرورة، فالإغريق حينذاك وعلى الرغم من تقدمهم الحضاري، كانوا لا يأنفون من استيحاء


١ Ibid., “After Aristotle, Rhetoric, Ii, ٢٠, ٣-٤; Demosthenes, Rhodians, ٣-٤”.
٢ Of. Tresson, Kemi, ١٩٣١, ١٢٦ F.; Ernst Meyer, Zas, ١٩٣١, ٦٨ F.; Bickermann, In Melanges Maspero, ١٩٣٤, ٧٧ F.; V. Clere, Rev. Eg., ١٩٥١, ٢٥ F.
٣ Berlin, ٢٥٥, ١٢٥٠٠, ٢٣٧٢٨; K. Bose, Die Menschliche Figur, ٥٨ A, ٢٠٥-٢٠٦, ٢٠٨.

<<  <   >  >>