للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ودخل باتا المخزن وأعد غرارة كبيرة، واكتال شعيرًا وحنطة. ولما خرج بهما سألته: كم احتملت على كتفك؟ فأجاب: "ثلاثة مكاييل من الحنطة واثنين من الشعير". فحاورته قائلة: "فيك بأس شديد وأشهد أنك تزداد قوة وجسارة على الدوام". ودبرت أمرًا في نفسها ثم هبت واقفة وتعلقت به وقالت هيت لك، ودعنا نمرح ساعة ونضجع، فذلك خير لك، ولسوف أخيط لك ثيابًا حسانًا. وفوجئ الفتى وأجفل وبدا في هيئة فهد الصعيد الغضوب كما روت القصة، وأربد وجهه من سوء ما دعته إليه. وأجفلت المرأة بدورها وخشيته خشية شديدة.

وقال لها الفتى: "اسمعي، أنت بالنسبة لي في منزلة الأم وزوجك في منزلة الأب لأنه أكبر مني وقد تعهدني ورباني، فلِمَ هذا العار الذي تدعونني إليه؟ إياك أن تفاتحيني فيه مرة أخرى، ولك من ناحيتي ألا أخبر أحدًا به أو أدعه يخرج من فمي إلى أحد". واحتمل باتا حمولته، وانصرف إلى المزرعة، فلما بلغ أخاه استأنف العمل كدأبه دون أن ينبس ببنت شفة.

ولما حان المساء انفصل الأخ الأكبر وقصد داره، وبقي الأصغر خلف ماشيته حتى أكمل حمولتها من خيرات الأرض، ثم ساقها أمامه ليبيت بها في حظيرته، وخشيت زوجة إنبو عاقبة زلتها، فاستعانت بعقار جعلها كالمريضة أو المضروبة. فلما بلغ بعلها داره وجدها ممددة متهالكة، فلم تصب الماء على يديه كعادتها، ولم توقد المصباح قبل مجيئه. ووجد الدار في ظلام دامس، فاقترب منها وسألها عمن أساء إليها قالت: لم يحادثني سوى أخيك، أتي يأخذ البذور ووجدني وحيدة فراودني عن نفسي وأمسك شعري، فأبيت أن أطيعه، وقلت له ألست في منزلة أمك، وأخوك في منزلة أبيك؟ فغضب وآذاني حتى لا أبوح لك بأمره. فإذا تركته يعيش، مت أنا، وأخشى إذا رجع المساء وفاتحته في عاره أن ينسب السوء إليَّ. وأربد وجه الزوج، وشحذ خنجره واختبأ خلف باب الحظيرة، ونوى أن يقتل أخاه حين رجوعه. وعاد باتا حين الغروب محملًا بخيرات الأرض كعادته، فلما دخلت أولى بقراته الحظيرة، همست له: "أخوك واقف أمامك بخنجره ليقتلك، فاهرب من أمامه". وفهم باتا قولها، ثم سمع مثله من البقرة التي تلتها، وتطلع إلى أسفل الباب فرأى قدمي أخيه، فألقى حمولته على الأرض وأطلق العنان لساقيه، وتبعه أخوه.

وتطلع باتا في محنته إلى ربه رب الشمس رع حرآختى وناجاه: "مولاي الكريم، أنت الذي تفرق بين الآثم والبريء". فاستجاب رع لدعائه وفصل بينه وبين أخيه بنهر عظيم ملأته التماسيح. وضرب الأخ الأكبر بكفيه من الغيظ، فناداه أخوه في الضفة الأخرى: الزم مكانك حتى يطلع رب الشمس ونحتكم إليه. وتجلى الرب رع حرآختي حين الصباح، وتطلع كل من الأخوين إلى الآخر. فقال الأصغر لأخيه: "لِمَ طاردتني لتقتلني قبل أن تسمع دفاعي؟ ألست أخاك الأصغر وأنت أب لي! إنك حين أرسلتني لآتيك بالبذور دعتني امرأتك إلى الخنا، ولكنها قصت عليك العكس". ثم قص قصته عليه وخنقته العبرات، واستل بوصة حادة وقطع إحليله ورماه في الماء ليثبت لأخيه زهده في الخنا وأهل الخنا وكاد يغشى عليه من فرط الألم. وندم الأخ الأكبر، ولم يتمالك نفسه فبكى، ولكنه عجز عن أن يصل إلى أخيه خوفًا من التماسيح.

<<  <   >  >>