للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتلقب رأس الحكم في المدينة السومرية في بداية أمره بلقب "إنسي"١، ربما بمعنى النائب أو الوكيل، إشارة إلى وكالته عن معبود مدينته في حكم بلده وأهلها. وإشارة إلى القداسة بالوكالة التي يرتكز عليها في ممارسة سلطاته الدنينة والمدنية٢. ويرى ياكوبسن " Th. Jacobsen" أنه سبق إسناد الرياسة إلى رئيس واحد، نوع من الحكم الثيوقراطي كان يتولاه من يلقب بلقب سانجا ويشرف على شئون المعبد الرئيسي ومصالحه، ونوع من الحكم الديموقراطي تمثل في وجود مجموعة من الشيوخ كانوا يجتمعون في مجالس عرفية ويتشاورون في أمور مدينتهم، ويسندون القيادة إلى واحد منهم خلال الحروب، واعتمد ياكوبسن في تخريجه هذا على عبارات وردت في قصص جلجميش وقصة إنمركار وما تضمنته الأساطير من مجامع الأرباب، ولو أنها عبارات ليس من الضروري أن تدل على ما ذهب إليه. وظلت الصبغة الدينية ألصق بلقب "إنسي" وترتب عليها أن انفسح المجال أمام كهنة المعبودات السومرية ليكون لهم شأن فعال في أوضاع دويلاتهم وسياستها، وظلت معابدهم تنتفع بنصيب كبير من ثروات المدن وأرضها وضرائب أصحابها، حتى أصبحت بأملاكها شبه وحدات اقتصادية وإدارية قائمة بذاتها٣. ومعنى هذا أن الصبغة الدينية للحكم كانت سلاحًا ذا حدين، فهي وإن ضمنت بعض القداسة للحاكم، إلا أنها كان يمكن أن تخلق أمامه منافسين أو منتفعين من رجال الكهنوت. ولهذا مال حكام المدن إلى تغليب الصبغة السياسية في سلطاتهم، وتلقب كل منهم بلقب "لوجال"، بمعنى الرجل الجليل وبما يرادف لقب ملك، واتسعت سلطاتهم المدنية على حساب سلطان الكهان، كما ظلوا من الناحية الشكلية يعتبرون ممثلين لمعبوداتهم على الأرض، ويدعون أنهم يصدرون في تصرفاتهم عن وحيهم لا سيما في فترات الحروب، ثم تركو لقب إنسي لولاتهم الفرعيين، وإن استعادوه لأنفسهم من حين إلى حين ليؤكدوا صلاتهم بأربابهم وتواضعهم إزاءهم. وظهرت لهذا التطور في سلطان الحكام السومريين أمثلة شرقية أخرى لاحقة لعصورهم، فبدأ الحكم في جنوب شبه الجزيرة العربية بنفس الصبغة وتلقب الحكام هناك بلقب مكرب ولقب مزود، ثم انتقل هؤلاء وهؤلاء إلى ألقاب الملوك وأكدوا بها الصفة الدنيوية في حكمهم.

وهكذا قطع السومريون أكثر من خمسة قرون من عصر بداية الأسرات العراقي، غابت فيها الوحدة السياسية الكاملة عن آفاقهم، ولم تجمع بين مدنهم محالفات بريئة طويلة الأمد في غير القليل النادر، ومن هذا القبيل صداقة بعض حكام كيش الأقدمين لمعاصريهم حكام لجش لفترة من الزمن، وإن ظلت اليد العليا الحكام كيش في هذه الصداقة.


١ عن ترجيح قراءة هذا اللقب "إنسي" عن قراءتي "إيشاكو" و"باتيسي" القديمتين:
See, Falkenstein, Za, Xlii, ١٥٢ F.; F.M. Th Boehl, Maog, Xi, ٣٧; And Anet, ٢٦٧.
٢ Cf. Th. Jacobsen, “Primitive Democracy In Ancient Mesopotamia”, Jnes, Ii “١٩٤٣”, ١٧٢.
٣ Th. Jacobsen, Jnes, ١٩٤٣, ١٦٥ F.; “J. Author” The Intellectual Advemures Of The Ancient Man, ١٩٤٦, ١٨٦; Frankfort, The Birth Of Civilization In The Near East, ٦٨.

<<  <   >  >>