للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويبدو أنه لم يكن يدفع دويلات المدن تلك إلى محاولات الترابط من حين إلى آخر، غير الرغبة في تحقيق منافع ذاتية في أغلب الأحوال، ومن هذا القبيل رغبة المدن القوية في بسط نفوذها على جيرانها، أو رغبتها في تصريف منتجاتها وتأمين سبل تجارتها عن طريق استبقاء علاقات الود مع جيرانها الذين تسلك قوافل تجارتها أرضهم وتجد أسواقها عندهم، أو رغبتها في سد مطالبها من المواد الأولية التي تتوفر في منطقة قريبة منها. ولم تتطلع دويلة منها إلى تحقيق وحدة وطنية ثابتة تستهدف الصالح العام السومري، إلا في عهود متأخرة نسبيًّا، وذلك على الرغم من أن أهلها في مجموعهم كانو يحسون تلقائيًّا بوحدة جنسهم، جنس أصحاب "الرءوس السود"، ووحدة الأرض "كالاما" التي عاشوا عليها، ويحسون بتقارب مذاهبهم التي شجعتهم على أن يتمثلوا بعض أربابهم في بعض آخر، ويتخيلوا صفات بعضهم لبعض آخر، وذلك فضلًا عن شعرهم برقي حضاراتهم في جملتها عن حضارات جيرانهم من أهل البوادي وأهل الجبال لا سيما بعد أن اتسعت ... وأخذت بثقافتهم مدن غرب الفرات ومدن شرق دجلة، وغير هذه وتلك من مدن العراق.

وليس من المستبعد أن حياة اللامركزية السومرية كانت لها مزاياها الداخلية من حيث تفرغ الحكام لأحوال دويلاتهم وإلمامهم بمشاكلها نتيجة لانحصار رقعتها، فضلًا عن قربهم من رعاياهم وصلتهم المباشرة بهم؛ ولكنها من جهة أخرى زادت من فرص المشاحنات بينهم على الحدود وعلى النفوذ وحرمت أصحابها من الانطلاق الدولي بمعناه الواسع.

ويمكن ترتيب ما يماثل هذه النتائج بتوجيهها إلى الإنتاج الحضاري للمدن السومرية، فقد ارتقت كل مدينة بحضارتها رقيًّا يناسب إمكانياتها. وحاولت كل منها أن تبتدع في صناعاتها وفنونها جهد طاقتها، كما يتضح مما بقي من روائع مخلفات مدينة أور وغيرها، ولكن عز عليها في الوقت نفسه، نتيجة لتفرق إمكانياتها، أن تنتج من العمائر وفنون الدنيا والدين ما يضارع العمائر والفنون المصرية التي عاصرتها فيما بين القرن الثلاثين وبين أواسط القرن الرابع والعشرين ق. م سواء في روعتها أم في ضخامتها واتساع مسطحاتها.

صورت المصادر السومرية المتفرقة طرفًا من أواخر أدوار التنافس وأعنفها بين مدينتي لجش "تلو"، وأوما "تل جوخة"، وقامت كلتاهما على أحد فروع الفرات الداخلية. وبدأ التنافس بينهما على موارد الماء وحدود الزراعة، ثم تدخل للفصل بينهما "ميسيلم" أحد حكام كيش الأوائل، وكانت له صلة ما بمدينة لجش سمحت له بأن يقدم هداياه إلى ربها نين جيرسو، وربما شارك في بناء معبده، في الوقت الذي حكم لجيش فيه حاكم يدعى لوجال شاج نانشه "أو شاج أنجور"، ففرض بينهما حدودًا فاصلة بعد أن أقنعهما بأن معبودته أوحت إليه بتقرير السلم بينهما، وبأن ما أوحت إليه به كان عن أمر الإله إنليل نفسه، ثم أقام نصبًا سجل عليه قضاءه بينهما١. ولكن النزاع الحدودي بين المدينتين كان قد تطور في جوهره إلى تنافس على الزعامة والسيطرة.


١ E. De Sarzec, Decouvertesen Chaldee, Pl. I Ter; Encyclopedie Photographique De L’art, I, ١٧٦; G. A. Barton, The Royal Inscriptions Of Sumer And Akkad, ١٩٢٩, ٢-٣; Kramer, Tablets..., Ch. V.

<<  <   >  >>