للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واتسعت دولة الميتان فيما جارها من أرض العراق وأرض الشام وضغطت لفترة ما على نشاط جيرانها الآشوريين والخاتيين، وحاولت أن يكون لها ضلع في زعامة الشرق فتنازعت مصر في زعامتها التي حققتها لنفسها منذ أوائل دولتها الحديثة حين امتد نفوذها فيما بين الشلال الرابع جنوبًا وبين ضفاف الفرات شمالًا بشرق. ومر في ص٢١٦ وما بعدها كيف بدأ الميتان تنفيذ أطماعهم بطريق غير مباشر، فألبوا بعض أمراء الشام على المصريين منذ أواخر عهد الملكة المصرية حاتشبسوت وخلال أوئل عهد الفرعون تحوتمس الثالث، كيف تصدت لهم جيوش هذا الفرعون وأفسدت مشاريعهم ومشاريع حلفائهم، وكيف استمرت العلاقات بين الدولتين، مصر والميتان، علاقات عدائية حتى نهاية عهد الفرعون أمنحوتب الثاني، ثم مالت الدولتان إلى سياسة التقارب. وليس من المستبعد أن يكون التقارب قد بدأ من ناحية الميتان بعد أن أحسوا ببداية استيقاظ الآشوريين في شرقهم وبداية استعداد الخاتيين "الحيثيين" في شمالهم الغربي، وتمخض التقارب بين الدولتين عن مصاهرة بيتيهما الحاكمين منذ عهد الفرعون المصر تحوتمش الرابع وفي عهد ولده أمنحوتب الثالث، وعهد حفيده آخناتون. واستقرت حينذاك صداقة الدولتين، وراسل حكامهما بعضهم بعضًا بلفظ الأخوة، واعتاد كل منهم على أن يسأل الآخر في رسائله عن أهله وداره وخيوله وأتباعه. وتسامح المصريون مع ديانة أصدقائهم، ولم ير أمنحوتب الثالث بأسًا في أن يتقبل في قصره تمثالين صغيرين للمعبودين العراقيين شمش وإشتار أرسلهما الملك الميتاني مع ابنته عروس أمنحوتب لتستعين ببركتهما على إقرار حبها في قلبه، ولم يجد بأسًا في أن يتقبل تمثالًا آخر لإشتار أتاه هدية من صديقه الميتاني ليتبرك به في مرضه. ويبدو أنه كانت لبلاد النهرين في جملتها شهرة خاصة في الطب والسحر تعادل شهرة مصر فيهما؛ إذ تكررت نفس الظاهرة مع الحيثيين في عصر لاحق لهذا العصر، وطلب الملك الحيثي موتاللو من معاصره البابلي أن يوفد إليه طبيبًا وساحرًا، وإن كان قد طلب نفس الطلب من مصر أيضًا فأرسلت إليه تمثالًا لمعبودها رب الشفاء خنسو ومعه كاهن ملازم له. وليس من المستبعد حين يتم الكشف عن عاصمة الميتان القديمة أن يتضح مدى تأثر إنتاجهم الفني بالفن المصري القديم، وتتميز من آثارهم المعروفة أوانٍ فخارية لطيفة ذات صبغة صفراء وخطوط سوداء غليظة ورسوم تخطيطية بيضاء١.

وعلى أية حال، فقد ظلت دول العراق تتطلع إلى مصر خلال هذه العهود على أنها أكبر دول الشرق كله، بحكم ضخامة إمكانياتها المادية والبشرية والفكرية، وأسلفنا في بحثنا للتاريخ المصري "ص٢٢١" كيف ظل ملوك الشرق وأمراؤه يرجون فرعون مصر أن يفيض عليهم من ذهبها نظير هداياهم من الأرقاء والجواري والمركبات والجياد والأحجار الكريمة، تساوي في ذلك ملوك الميتان وملوك بابل وملوك آشور، فضلًا عن أمراء الشام وحكام قبرص. وكيف أنه على الرغم من ترحيب ملوك الشرق وأمرائه بمصاهرة أمنحوتب المصري، ظل ضنينًا عليهم بأميرات بيته، بحجة أنه لم يسبق أن تزوجت أميرة مصرية بشخص أجنبي.


١ عثر على نماذج هذه الأواني في مناطق عدة مثل: نوزي وآشور ونينوى وتل حلف وتل العطشانة.
Cf. A. Parrot, Archeologie Mesopotamienne, I, Paris, ١٩٤٦.

<<  <   >  >>