للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد ورث عن أسلافه الأقربين جيشًا محنكًا وسنة ثبتها هو وخلفاؤه، وهي: اضرب قبل أن تُضرب. وهاجم قبل أن تُهاجم، واجعل تنكيلك بأقرب خصومك عبرة يخشاها بقية أعداءك١. وبهذا استمر زحف الجيوش الآشورية، التي استمدت قوتها من تعاون المقاتلين على ظهور الخيل فيها مع الرماة والمشاة المدججين بالسلاح، واستخدام أدواته حصار ناجعة كانت منها الكباش أو الثيران التي تقوم مقام الدبابات وهي ذات ست عجلات ومقدمة مدببة يبدو أنها كانت تدفع بقوة من بعيد لتنقب الحصون وتدكها، وأخرى كانت تقوم مقام العربات المصفحة يستتر الجنود فيها وينقبون الحصون وهم في مأمن من سهام العدو، وأبراج متنقلة ليصعد الرماة في داخلها إلى مستوى أسوار العدو، وما يشبه الخراطيم لإطفاء النيران التي يصبها العدو على آلات الحصار. وكان إخضاع الجيوش الآشورية لكل منافس من منافسيها يوسع من حدود دولتها، فتنساق بهذا إلى أعداء ومنافسين جدد ما يتطلب منها تكرار الإجراء نفسه. ويبدو أن إحاطة آشور بالأعداء والمنافسين من كل جانب قد زكى فيها مر العصور على روح التحدي وإظهار العنف في المعاملة وقسوة الانتقام، والرغبة في إشاعة الرهبة حولها وتعويض قلة أعداد أهلها.

أكدت نصوص آشور ناصر بال أنه تلقى جزى الخاتيين، وبلغ جبال لبنان، وغمس أسلحته في بحر أمورو العميق "أي البحث المتوسط" وتلقى الجزى من المواني والجزر "الفينيقية" الكبيرة: صور وصيدا وجبيل، ومحلاتا، ومايزا، وأمورو، وأرواد التي في البحر، وأنه صعد جبال لبنان، وجلب "وجلب رجاله" أخشاب الأرز والصنوبر من جبال خامانا "أي أمانوس" لمعابد سين وشمش ربي النور، ولاستخدامها في قصره. وامتازت الروايات التي أثبتت على لسانه في حولياته بحيوية فياضة وتفاصيل ممتعة ظهرت بوادرها في حوليات أبيه كما أشرنا، ويقول فيها. أرسلت إلى كذا، وجعلت كذا على يساري, وعبرت نهر أورانتو مثلًا "أي نهر العاصي" وقضيت الليل على ضفافه واحتفلت بعيد كذا في قصر كذا .... ٢، وغالبًا ما كان يفخر بعبوره نهر الفرات في قمة فيضانه مع جيشه الكبير على ناقلات، وأصبح مثل هذا الفخر عبارة تقليدية رددتها نصوص خلفائه. وسجلت مناظر عهده عبور الفرات هذا، فصورت نقل العربات على العابرات، وسباحة الجند بجانبها، واستعانتهم على تعويمها بقرب منفوخة من جلود الماعز، وصورت نقل الملك بعربته في قارب خاص، وسباحة الخيول طليقة أو النهر أو مع إمساك جنود القوارب بأعنتها٣.

وصبغت نصوص هذا الفاتح الآشوري حروبه وانتصاراته بطابع القسوة الشديدة فتحدثت عن أن رجاله كانوا يسلخون جلود كبار الأعداء أحياء ويثبتوتها على آثارهم وأبواب عاصمتهم بالمسامير، وكانوا يعذبون بعضهم على الخوازيق ويقطعون أيديهم ويجمعون جماجمهم في أكوام، ثم يحرقون مئات الأسرى ولا يستثنون النساء، ويجدعون أنوف آخرين ويصلمون آذانهم ويبترون أصابعهم ويفقئون


١ انظر جون هامرتون: تاريخ العالم - معرب بالقاهرة - الجزء الثاني - الخبر الثالث.
٢ D.Luckenbill, Ancient Records, I,٤٧٦ F.
٣ W. Budge, Assyrian Sculptures In The Britsh Musum. Pls. Xxi A-B, Xxii A.

<<  <   >  >>