[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يُضْمَنُ بِالنَّارِ وَمَا لَا يُضْمَنُ]
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يُضْمَنُ بِالنَّارِ وَمَا لَا يُضْمَنُ) رَجُلٌ أَرَادَ أَنْ يَحْرِقَ حَصَائِدَ أَرْضِهِ فَأَوْقَدَ النَّارَ فِي حَصَائِدِهِ فَذَهَبَتْ النَّارُ إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَأَحْرَقَ زَرْعَهُ لَا يَضْمَنُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَقَ حَصَائِدَهُ تَتَعَدَّى النَّارُ إلَى زَرْعِ جَارِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ كَانَ قَاصِدًا إحْرَاقَ زَرْعِ الْغَيْرِ.
قَالُوا: إنْ كَانَ زَرْعُ غَيْرِهِ يَبْعُدُ عَنْ حَصَائِدِهِ الَّتِي أَحْرَقَهَا وَكَانَ يَأْمَنُ أَنْ يَحْتَرِقَ زَرْعُ جَارِهِ وَلَا يَطِيرُ شَيْءٌ مِنْ نَارِهِ إلَّا شَرَارَةٌ، أَوْ شَرَارَتَانِ فَحَمَلَتْ الرِّيحُ نَارَهُ مِنْ أَرْضِهِ إلَى أَرْضِ جَارِهِ فانحرق زَرْعُ الْجَارِ وَكُنْهُ لَا يَضْمَنُ فَإِذَا كَانَ أَرْضُ جَارِهِ قَرِيبًا مِنْ أَرْضِهِ بِأَنْ كَانَ الزَّرْعَانِ مُلْتَصِقَيْنِ، أَوْ قَرِيبَيْنِ مِنْ الِالْتِصَاقِ عَلَى وَجْهِ أَنَّ نَارَهُ تَصِلُ إلَى زَرْعِ جَارِهِ يَضْمَنُ صَاحِبُ النَّارِ زَرْعَ الْجَارِ وَكَذَلِكَ رَجُلٌ لَهُ قُطْنٌ فِي أَرْضِهِ، وَأَرْضِ جَارِهِ لَاصِقَةٌ بِأَرْضِهِ، فَأَوْقَدَ النَّارَ مِنْ طَرَفِ أَرْضِهِ إلَى جَانِبِ الْقُطْنِ فَأَحْرَقَتْ ذَلِكَ الْقُطْنَ كَانَ ضَمَانُ الْقُطْنِ عَلَى الَّذِي أَوْقَدَ النَّارَ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ نَارَهُ تَتَعَدَّى إلَى الْقُطْنِ كَانَ قَاصِدًا إحْرَاقَ الْقُطْنِ.
رَجُلٌ، أَوْقَدَ تَنُّورَهُ نَارًا فَأَلْقَى فِيهِ مِنْ الْحَطَبِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ التَّنُّورُ فَاحْتَرَقَ بَيْتُهُ وَتَعَدَّى إلَى دَارِ جَارِهِ فَأَحْرَقَ يَضْمَنُ صَاحِبُ التَّنُّورِ.
رَجُلٌ مَرَّ بِنَارٍ فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَوَقَعَتْ شَرَارَةٌ مِنْ النَّارِ عَلَى ثَوْبِ إنْسَانٍ، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ حَمْلِ النَّارِ وَالْوُقُوعِ عَلَى الثَّوْبِ وَاسِطَةٌ، فَيَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ، حَتَّى لَوْ طَارَتْ الرِّيحُ بِشَرَرٍ مِنْ النَّارِ فَأَلْقَتْهُ عَلَى ثَوْبِ إنْسَانٍ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ. هَكَذَا ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنْ مَرَّ بِالنَّارِ فِي مَوْضِعٍ لَهُ حَقُّ الْمُرُورِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَالْجَوَابُ فِيهِ يَكُونُ عَلَى التَّفْصِيلِ إنْ وَقَعَتْ مِنْهُ شَرَارَةٌ يَضْمَنُ وَإِنْ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ لَا يَضْمَنُ وَهَذَا أَظْهَرُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَهَكَذَا لَوْ وَضَعَ جَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ فَاحْتَمَلَ بِهِ شَيْءٌ ضَمِنَ.
وَلَوْ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَأَحْرَقَتْ شَيْئًا فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهَا فِيهِ.
قَالَ الشَّيْخُ الْأَجَلُّ السَّرَخْسِيُّ: إذَا وَضَعَ الْجَمْرَةَ فِي الطَّرِيقِ فِي يَوْمِ الرِّيحِ يَكُونُ ضَامِنًا، وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ فِي كِتَابِ السِّيَرِ إذَا وَضَعَ جَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ، أَوْ مَرَّ بِنَارٍ فِي مِلْكِهِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ وَأَطْلَقَ الْجَوَابَ فِيهِ وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ: أَوْقَدَ نَارًا فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ فَجَاءَ الرِّيحُ وَنَقَلَهَا إلَى دَارِ رَجُلٍ آخَرَ وَأَحْرَقَهَا لَا يَضْمَنُ فَعَلَّلَ وَقَالَ: لِأَنَّ جِنَايَتَهُ قَدْ زَالَتْ وَذَكَرَ فِي الْجِنَايَاتِ مَسْأَلَةً تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ النَّاطِفِيُّ أَنَّ جِنَايَتَهُ قَدْ زَالَتْ.
حَدَّادٌ ضَرَبَ حَدِيدًا عَلَى حَدِيدٍ مَحْمِيٍّ فَانْتُزِعَتْ شَرَارَةٌ مِنْ ضَرْبِهِ فَوَقَعَتْ عَلَى ثَوْبِ رَجُلٍ يَمُرُّ فِي الطَّرِيقِ فَأَحْرَقَتْ ثَوْبَهُ ضَمِنَ الْحَدَّادُ.
وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ: حَدَّادٌ يَجْلِسُ فِي دُكَّانٍ اتَّخَذَ فِي حَانُوتِهِ كِيرًا يَعْمَلُ بِهِ، وَالْحَانُوتُ إلَى جَانِبِ طَرِيقِ الْعَامَّةِ فَأَوْقَدَ الْحَدَّادُ كِيرَهُ نَارًا عَلَى حَدِيدٍ لَهُ ثُمَّ أَخْرَجَ حَدِيدَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى عِلَّاته وَطَرَقَهَا بِمِطْرَقَةٍ فَتَطَايَرَ مَا يَتَطَايَرُ مِنْ الْحَدِيدَةِ الْمُحْمَاةِ وَخَرَجَ ذَلِكَ مِنْ حَانُوتِهِ وَقَتَلَ رَجُلًا، أَوْ فَقَأَ عَيْنَ رَجُلٍ، أَوْ أَحْرَقَ ثَوْبَ إنْسَانٍ، أَوْ قَتَلَ دَابَّتَهُ كَانَ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِذَلِكَ مِنْ الْمَالِ وَالدَّابَّةِ فِي مَالِ الْحَدَّادِ دِيَةُ الْقَتِيلِ وَالْعَيْنِ تَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّ مَا طَارَ مِنْ دَقِّ الْحَدِيدِ وَضَرْبِهِ فَهُوَ كَجِنَايَتِهِ بِيَدِهِ لَا عَنْ قَصْدِهِ، وَلَوْ لَمْ يَدُقَّ الْحَدَّادُ لَكِنْ احْتَمَلَتْ الرِّيحُ عَنْ بَعْضِ النَّارِ