وأما الثاني: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به، وأبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا أن لا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون، لا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم، فلو باع غيرهم ذلك منع، إما ظلما لوظيفة تؤخذ من البائع، أو غير ظلم؛ لما في ذلك من الفساد، فهاهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء؛ لأنه إذا كان قد منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا أو اشتروا بما اختاروا - كان ذلك ظلما للخلق من وجهين: ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال، وظلما للمشترين منهم، والواجب إذا لم يمكن دفع جميع الظلم أن يدفع الممكن منه، فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته: إلزامهم أن يبيعوا أو لا يشتروا إلا بثمن المثل.
وهذا واجب في مواضع كثيرة من الشريعة، فإنه كما أن الإكراه على البيع لا يجوز إلا بحق: يجوز الإكراه على البيع بحق في مواضع، مثل: بيع المال لقضاء الدين الواجب، والنفقة الواجبة، والإكراه على أن لا يبيع إلا بثمن المثل لا يجوز إلا بحق، ويجوز في مواضع مثل: المضطر إلى طعام الغير، ومثل: الغراس، والبناء الذي في ملك الغير، فإن لرب الأرض أن يأخذه بقيمة المثل لا بأكثر، ونظائره كثيرة.