والاستدلال على ذلك بأن حكومة ما دونت الراجح من مذهب من هي منتسبة إليه في مواد، وألزمت العمل بذلك في محاكمها ثم ألغت الشريعة مطلقا - فهذا مردود؛ لأن تلك الحكومة لم يقتصر تنكرها للدين على المسلك القضائي في المحاكم، وإنما نفضت يدها من الدين مطلقا، وانتقلت إلى دولة علمانية، ثم إن هناك مجموعة من الحكومات الإسلامية ليست دولة أو دولتين لم يكن لها مواد مدونة من الشريعة الإسلامية، وإنما كانت محاكمها تحكم بالراجح من مذهب إمام ما من أئمة المسلمين فكان منها - والعياذ بالله - أن ألغت العمل بالشريعة الإسلامية، وأخذت بقوانين أوروبا وغيرها، وتركت التعاليم الإسلامية عن القضاء خاصة بالأحوال الشخصية. نقصد بذلك أن التدوين ليس وسيلة إلى تحقق ما بدت المخاوف منه.
وأما القول بأن في التدوين تبليدا للفكر، وجمودا به عن البحث والاستقصاء - فيجاب عن ذلك بأمرين:
الأمر الأول: أن الإلزام بمذهب معين كان موضع التنفيذ لدى كثير من ولاة أمر المسلمين على مختلف الأمصار والأعصار، ولم يكن هذا مانعا من الاتساع الفقهي، بل إن مطولات الكتب في الفقه لم توجد إلا في هذه الفترات.
الأمر الثاني: أن الإلزام ليس شاملا للجهات العلمية المختلفة، وإنما هو خاص بالقضاة فيما يحكمون به، مع أن القاضي إذا كان لديه الأهلية في البحث والاستقصاء والاجتهاد فإن الجهة المختصة به إداريا ستعير اجتهاده ما يستحقه، كما أن تدوين الأحكام لا يمكن أن يكون شاملا لجميع القضايا