القسم الثالث: ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين وهذا في محل النظر، فلنقدم على تمثيله تقسيما آخر، وهو أن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الضرورات، وإلى ما هي في رتبة الحاجات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات، وتتقاعد أيضا عن رتبة الحاجات. ويتعلق بأذيال كل قسم من الأقسام ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها.
ولنفهم أولا معنى المصلحة، ثم أمثلة مراتبها:
أما المصلحة فهي: عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة. وإذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب في كتاب القياس أردنا به هذا الجنس.
وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله: قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب؛ إذ به حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب؛ إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنا؛ إذ به حفظ النسل والأنساب، وإيجاب زجر الغصاب والسراق؛ إذ به يحصل حفظ الأموال