للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإنَّ التصريف في القرآن الكريم على ضربين: أحدهما في المعاني، وثانيهما: في الألفاظ والأساليب، فأمَّا التصريف في المعاني فإن المؤدَّى في جملته يكون واحدًا في عدة مواضع، ولكن لها في كل مرة عبرة, وهذا تصريف في المعاني وإن كانت الألفاظ تختلف أو تتقارب أو تتحد العبارات في بعض الأحيان، ولقد قال في تصريف المعاني الرماني في رسالته إعجاز القرآن: "وهذا الضرب من التصرف فيه بيان عجيب يظهر فيه المعنى بما يكتنفه من المعاني التي تظهره وتدل عليه، وتصريف المعنى في الدلالات المختلفة قد جاء في القرآن في غير قصة، منها: قصة موسى -عليه السلام- في سورة الأعراف، وفي طه والشعراء؛ لوجوه من الحكمة، منها: التصرف في البلاغة من غير نقصان، ومنها: تمكين العبرة والموعظة"١.

٧٣- وأول تصريف في مناحي القول في القرآن يكون في السور، فمنها: الطوال التي يجد فيها القارئ أبواب العلم الإسلامي المختلفة من بيان الوحدانية، وبطلان الوثنية، وتوجيه الأنصار إلى الكون، وما فيه من دلالة على قدرة الله، والأرض وما حوت من كنوز وزروع وثمار، من اتصال الأرض بالسماء بالمطر الذي يكون غيثًا يحيي الأرض، وينبت الزرع، ويسقي كل حيّ، ومن شرائع فيها المصلحة الإنسانية وكرامة الإنسان، وتكريمه بالعقل.

وفيها القصار التي يسهل على القارئ حفظها، وأن يعيها صدره لما فيها من جمل قصار يسهل وعيها والاعتبار بهان وذكرها في صلواته، وفيها بيان الوحدانية وذكر اليوم الأخر، وفي بعضها تجد أحكامًا شرعية مثل قوله تعالى في سورة الكوثر: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ، ففيها ذكر لليوم الآخر ومقام النبي -صلى الله عليه وسلم، ومقام الشانئين الذين عادوه وعادوا الحق معه، وحكم الأضحية.

واقرأ قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ، ففي هذه السورة القصيرة جماع الخصال الإنسانية التي تصلح الآحاد والجماعات، وهي الإيمان الذي يعمر القلوب ويوجه الجوارح، فلا صلاح لإنسان أو جماعة إلَّا إذا صلحت القلوب، وأثمر الإمان العمل الصالح في الآحاد، وكانت الجماعة كلها للحق تتواصى عليه وتتعاون، فما صلح قوم ضاع الحق بينهم، وتخاذلوا في نصرته، وإن السبيل إلى احتمال أعباء الحق هو الصبر، فإنَّ الصبر فيه ضبط النفس، والابتعاد عن الشهوات، وجعلها خاضعة


١ رسالة الرماني من مجموع الرسائل في إعجاز القرآن ص١٠١.

<<  <   >  >>