للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك الطير الضعيف أو تلك الحشرة الضئيلة التي يستحقرونها، ولو أنَّ الذباب سلب منهم شيئًا، ولو اجتمعوا مع أوثانهم على أن يستردوه ما استطعوا إلى ذلك سبيلًا، وهم والذباب سواء في الضعف وإن بدوا أقوياء، وهذا أضعف خلق الله تعالى في زعمهم، فكيف يكون للذين يدعونهم آلهة قوة أمام الله، وكيف يعبدونهم معه، وهم لا وجود لهم ولمن يعبدونهم بجواره -سبحانه وتعالى- علوًّا كبيرًا، فهذا المثل سيق مساق الاستدلال وكان دليلًا قويًّا، إن كانوا طلاب حق يلتمسون الدليل عليه، وإن كانا طلاب باطل ضلوا السبيل، لا يزيدهم الدليل إلَّا كفرًا.

ومن الأمثلة الموضحة التي تثبت كمال سلطان الله وأنه وحده القادر وبطلان غرور الإنسان إزاء قدرة الله تعالى قوله سبحانه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا، وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا، هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف: ٣٢-٤٤] .

وهذا المثل الواقعي التصويري فيه دليل على إثبات حقيقتين، أولاهما: أنَّ المغترّ دائمًا يدلي به غروره إلى أنه يحكم على المستقبل بما هو عليه في الحال القائمة، والقوة الموهومة، فذو الجنة والنفر ظنّ أن الحاضر ينبئ عن المستقبل، وغره بالله الغرور، وتعالى من غير علوّ، وتسامى من غير سموّ، واستقوى من غير قوة، فجاء المستقبل وخيب الأمل وكشف الحقيقة.

الحقيقة الثانية: إثبات أنَّ الولاية والنصرة لله -سبحانه وتعالى، وأنه وحده المالك للأمور كلها في ماضيها ومستقبلها وشاهدها، وغائبها.

فكان المثل دليلًا على وباء الغرور، وأن الأمر لله وحده.

<<  <   >  >>