للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن الأمثال الموجّهة إلى الحقائق الخلقية والدينية قوله تعالى في سورة القلم: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} [القلم: ١٧- ٢٣] .

سيقت قصة أصحاب الجنة الدنيوية، وهي قصة واقعية تصويرية، وهي دليل مثبت؛ أولًا: لأنّ الزكاة تطهر المال وتحميه؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فهي للمال نظافة ونماء، وهم قد أقسموا ليصرمنَّها مصبحين، وأن لا يدخلنَّها اليوم عليهم مسكين، وتثبت ثانيًا: أن العاقبة الحسية تؤثر في النفس إن كان فيها قابلية للهداية، وهؤلاء إذا كانت قد ضاعت منهم الثمرات، فقد عادت إليهم بأعظم العظات، فما كسبوه من عظة أكثر مما فقدوه من ثمرة، وثمرات القلوب أطيب من ثمرات تشتهي الأبدان طعمها، وهي دليل على أنَّ الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن الأقدار تحت سلطانه، ويجريها كما يحب وكما يشاء.

ومن الأمثلة التي تساق مساق الدليل قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: ٧٥، ٧٦] .

والآيات قبل ضرب هذين المثلين كانت في الأمر بعبادة الله تعالى وحده والإخبار عن عبادة المشركين من لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا؛ إذ يقول سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} ، فجاء -سبحانه وتعالى- بهذين المثلين، وهما يبطلان عقيدة الشرك وزعم المشركين بأمثلة تقع في الحياة، والحكم فيها من البدهيات التي لا ينكرها عاقل، ولا يختلف فيها فكر عن فكر، وكل مثل من المثلين دليل قائم بذاته على بطلان الوثنية؛ إذ فيه تسوية بين من لا يقع بينهما التساوي.

أمَّا أولهما فقد ضرب برجلين أحدهما عبد مملوك لا يقدر على شيء؛ لأنه مملوك لغيره، فهو ليس له مال، فهل يستوي هذا مع رجل مرزوق من الله تعالى رزقًا

<<  <   >  >>