كيف ابتدأ خلق الإنسان من طين، ثم جاءته الأطوار المختلفة حتى آل إلى القبر ثم كيف خلق الأحياء في الأرض من نبات وحيوان واهتزن وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج، وأنَّ كل ذلك دليل على قدرة المنشئ علَّام الغيوب، بديع السماوات والأرض، وأنه على ما يشاء قدير.
وإنَّ هذا النسق البياني قرب فيه البعيد، وسهل على الأفهام دخوله، والله على كل شيء قدير.
وتجد في الآيات الكريمات عقد المشابهة بين ابتداء الخلق وإعادته في أبلغ تعبير وأسلم تقرير، وإنَّ في هذه الأمثلة وغيرها مما اشتمل عليه القرآن الكريم قياس ما في الغيب على المشاهد، وقياس ما بينه الله تعالى، وأوجب الإيمان به على ما هو واقع مرئي مشاهد، فيه الدلالة الكاملة على قدرة الله تعالى، وأنَّه المالك لما هو واقع والقادر على ما لم يقع الآن، وسيقع كما وعد، ووعده لا يتخلف.
١٥٩- هذا، ويلاحظ القارئ للقرآن التالي لآياته، المتبصر في عبره وعظاته، والدارس لأدلته، أنَّ جدل القرآن لا يتجه إلى مجرد الإفحام والإلزام، بل يتجه في الكثير الغالب إلى إرشاد القارئين والمدركين، والأخذ بأيديهم إلى الحق، وتوجيه النظر إلى الحقائق، وما في الكون من دلائل على القدرة، كما ترى في قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}[ق: ٦-١١] .
فترى في هذه الآيات أنَّ البيان فيها ليس مجرد إفحام الوثنيين ومنكري التوحيد، بل فيه توجيه إلى الكون، وما فيه من دلائل القدرة، وعجائب الصنع وما فيه من سماء زينت ببروجها ونجومها، والأرض وما فيها من رواسي: كأنها تمسكها أن تميد، وما فيها من نبات يحصد في إبانه، وجنات تونع وتثمر في وقتها.