واقرأ قوله تعالى في سورة الرحمن:{الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآَنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ، وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ، فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . إلى آخر السورة الكريمة. وفي هذا ترى الاستدلال القوي متجهًا إلى الإرشاد إلى ما في الكون، وما أنعم الله به على الإنسان من علم بما لم يكن يعلم، وما علمه من الشمس والقمر، وما علمه من معاملات كريمة، وتعاون إنساني مبني على الفضيلة، وعلمه كيف خلق الإنسان، وهكذا من استدلال حكيم، وإرشاد وتوجيه وتعلم.
وإنَّه إذا اتجه القرآن الكريم إلى الإلزوام والإفحام لا يلبث أن يأخذ بيد المعاند إلى الحقيقه يبينها واضحة جلية لا ريب فيها، كما ترى في قوله تعالى رادًّا على المشركين طلبهم أن يكون الرسول ملكًا:
فإنك ترى أنَّ في ذلك إفحامًا لهم من ناحيتين: الناحية الأولى: أنَّهم لو أجيبوا إلى ما يطلبون لقضي عليهم ما هدَّدهم الله تعالى به، ولا ينظرون، والثانية: أنه لا يزول اللبس الذي يلبسون به الحق بالباطل؛ لأنه لو جعله الله تعالى ملكًا لجلعه في صورة رجل، وبذلك يجيء الالتباس الذي لبس به عليهم.
ومن الاستدلال المفحم الهادي قوله تعالى في الردِّ على اليهود ووصفهم:{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران: ١٨٣] .
وكما ترى في قوله تعالى ردًّا على الذين ينكرون الرسالات الإلهية، فقد قال تعالت كلماته:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ}[الأنعام: ٩١] ويظهر أن الذين قالوا هذا القول من اليهود، قالوه لينكروا رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الآيات التي تلوناها ترى الإلزام المفحم، والحجة البالغة، والفيصل الفارق بين الحق والباطل، قد أدحضت به حجة الخصوم وأرشدوا إلى المحجة،