ومنه أنّ مجالس الظّرفاء والأدباء لا تطيب، ولا تؤنس إلّا بإنشاد الأشعار، ومذاكرة الأخبار؛ وأحسن الأخبار عندهم ما كان فى أثنائها أشعار؛ وهذا شىء مفقود فى غير الشعر.
ومما يفضل به الشعر أن الألحان- التى هى أهنى اللّذات- إذا سمعها ذوو القرائح الصافية، والأنفس اللطيفة، لا تتهيّأ صنعتها إلا على كل منظوم من الشعر؛ فهو لها بمنزلة المادّة القابلة لصورها الشريفة؛ إلّا ضربا من الألحان الفارسية تصاغ على كلام غير منظوم نظم الشعر، تمطّط فيه الألفاظ؛ فالألحان منظومة، والألفاظ منثورة.
ومن أفضل فضائل الشّعر أنّ ألفاظ اللغة إنما يؤخذ جزلها وفصيحها، وفحلها وغريبها من الشعر؛ ومن لم يكن راوية لأشعار العرب تبيّن النقص فى صناعته.
ومن ذلك أيضا أنّ الشواهد تنزع من الشّعر، ولولاه لم يكن على ما يلتبس من ألفاظ القرآن وأخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم شاهد.
وكذلك لا نعرف أنساب العرب وتواريخها وأيّامها ووقائعها إلّا من جملة أشعارها؛ فالشعر ديوان العرب، وخزانة حكمتها، ومستنبط آدابها، ومستودع علومها؛ فإذا كان ذلك كذلك فحاجة الكاتب والخطيب وكلّ متأدّب بلغة العرب أو ناظر فى علومها [إليه] ماسّة وفاقته إلى روايته شديدة.
وأمّا النقص الذى يلحق الشّعر من الجهات التى ذكرناها فليس يوجب الرغبة عنه والزّهادة فيه، واستثناء الله عزّ وجلّ فى أمر الشعراء يدلّ على أنّ المذموم من الشعر إنما هو المعدول عن جهة الصواب إلى الخطأ والمصروف عن جهة الإنصاف والعدل إلى الظلم والجور.
وإذا ارتفعت هذه الصفات ارتفع الذم، ولو كان الذمّ لازما له لكونه شعرا لما جاز أن يزول عنه على حال من الأحوال. ومع ذلك فإنّ من أكمل الصفات