الفصل الثّالث وهو القول فى تفسير ما جاء عن الحكماء والعلماء فى حدود البلاغة
فحقيقة البلاغة هى ما ذكرته. وقد جاء عن الحكماء فيه ضروب أنا ذاكرها ومفسّرها لتكمل فائدة الكتاب إن شاء الله.
قال إسحق بن حسان: لم يفسر أحد البلاغة تفسير ابن المقفّع؛ إذ قال: البلاغة اسم لمعان تجرى فى وجوه كثيرة؛ منها ما يكون فى السكوت، ومنها ما يكون فى الاستماع، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا، ومنها ما يكون خطبا، وربّما كانت رسائل. فعامّة ما يكون من هذه الأبواب فالوحى فيها والإشارة إلى المعنى أبلغ، والإيجاز هو البلاغة.
فقوله:«منها ما يكون فى السكوت» ، فالسكوت يسمّى بلاغة مجازا، وهو فى حالة لا ينجع فيها القول ولا ينفع فيها إقامة الحجج. إما عند جاهل لا يفهم الخطاب، أو عند وضيع لا يرهب الجواب، أو ظالم سليط يحكم بالهوى، ولا يرتدع بكلمة التقوى. وإذا كان الكلام يعرى من الخير، أو يجلب الشّرّ فالسكوت أولى؛ كما قال أبو العتاهية «١» :
ما كلّ نطق له جواب ... جواب ما يكره السكوت
وقال معاوية رضى الله عنه لابن أوس: ابغ لى محدّثا. قال: أو تحتاج معى إلى محدّث؟ قال: أستريح منه إليك، ومنك إليه، وربما كان صمتك فى حال أوفق من كلامك.
وله وجه آخر؛ وهو قولهم: كلّ صامت ناطق من جهة الدلالة، وذلك أنّ دلائل الصنعة فى جميع الأشياء واضحة، والموعظة فيها قائمة.
وقد قال الرقاشىّ: سل الأرض؛ من شقّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا «٢» أجابتك اعتبارا.