الفصل الثّانى فيما يحتاج الكاتب إلى ارتسامه وامتثاله فى مكاتباته
ينبغى أن تعلم أنّ الكتابة الجيدة تحتاج إلى أدوات جمّة، وآلات كثيرة؛ من معرفة العربية لتصحيح الألفاظ، وإصابة المعانى، وإلى الحساب، وعلم المساحة، والمعرفة بالأزمنة والشهور والأهلة، وغير ذلك مما ليس هاهنا موضع ذكره وشرحه، لأنّا إنما عملنا هذا الكتاب لمن استكمل هذه الآلات كلّها، وبقى عليه المعرفة بصنعة الكلام، وهى أصعبها وأشدّها.
والشاهد ما روى لنا أبو أحمد عن مبرمان عن المبرّد، أنه قال: لا أحتاج إلى وصف نفسى لعلم الناس بى؛ إنه ليس أحد من الخافقين يختلج فى نفسه مسألة مشكلة إلا لقينى بها، وأعدّنى لها، فأنا عالم ومتعلم وحافظ ودارس، لا يخفى علىّ مشتبه من الشّعر والنّحو والكلام المنثور والخطب والرسائل، ولربما احتجت إلى اعتذار من فلتة أو التماس حاجة، فأجعل المعنى الذى أقصده نصب عينى، ثم لا أجد سبيلا إلى التعبير عنه بيد ولا لسان. ولقد بلغنى أنّ عبيد الله بن سليمان ذكرنى بجميل، فحاولت أن أكتب إليه رقعة أشكره فيها، وأعرض ببعض أمورى؛ فأتعبت نفسى يوما فى ذلك فلم أقدر على ما أرتضيه منها، وكنت أحاول الإفصاح عمّا فى ضميرى، فينصرف لسانى إلى غيره. ولذلك قيل: زيادة المنطق على الأدب خدعة، وزيادة الأدب على المنطق هجنة.
فأوّل ما ينبغى أن تستعمله فى كتابتك مكاتبة كلّ فريق منهم على مقدار طبقتهم وقوّتهم فى المنطق، وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم.
والشاهد عليه أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لما أراد أن يكتب إلى أهل فارس