من قذف المحصنات، وشهادة الزور، وقول البهتان؛ لا سيما الشعر الجاهلىّ الذى هو أقوى الشعر وأفحله؛ وليس يراد منه إلّا حسن اللفظ، وجودة المعنى؛ هذا هو الذى سوّغ استعمال الكذب وغيره مما جرى ذكره فيه.
وقيل لبعض الفلاسفة: فلان يكذب فى شعره؛ فقال: يراد من الشاعر حسن الكلام، والصّدق يراد من الأنبياء.
فمن مراتبه العالية التى لا يلحقه فيها شىء من الكلام النظم «١» الذى به زنة الألفاظ، وتمام حسنها؛ وليس شىء من أصناف المنظومات يبلغ فى قوة اللفظ منزلة الشعر.
[ميزات الشعر على غيره]
ومما يفضل به غيره أيضا طول بقائه على أفواه الرّواة، وامتداد الزمان الطويل به؛ وذلك لارتباط بعض أجزائه ببعض؛ وهذه خاصة له فى كلّ لغة، وعند كلّ أمة؛ وطول مدة الشىء من أشرف فضائله.
ومما يفضل به غيره من الكلام استفاضته فى الناس وبعد سيره فى الآفاق؛ وليس شىء أسير من الشعر الجيّد، وهو فى ذلك نظير الأمثال.
وقد قيل: لا شىء أسبق إلى الأسماع، وأوقع فى القلوب، وأبقى على الليالى والأيام من مثل سائر، وشعر نادر.
ومما يفضل به غيره أنه ليس يؤثّر فى الأعراض والأنساب تأثير الشعر فى الحمد والذم شىء من الكلام؛ فكم من شريف وضع، وخامل دنىء رفع؛ وهذه فضيلة غير معروفة فى الرسائل والخطب.
ومما يفضلهما به أيضا أنه ليس شىء يقوم مقامه فى المجالس الحافلة، والمشاهد الجامعة، إذا قام به منشد على رءوس الأشهاد، ولا يفوز أحد من مؤلّفى الكلام بما يفوز به صاحبه من العطايا الجزيلة، والعوارف السنيّة، ولا يهتزّ ملك، ولا رئيس لشىء من الكلام كما يهتزّ له، ويرتاح لاستماعه؛ وهذه فضيلة أخرى لا يلحقه فيها شىء من الكلام.