المبالغة أن تبلغ بالمعنى أقصى غاياته، وأبعد نهاياته، ولا تقتصر فى العبارة عنه على أدنى منازله وأقرب مراتبه؛ ومثاله من القرآن قول الله تعالى: يَوْمَ (تَرَوْنَها) تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى
. ولو قال: تذهل كل امرأة عن ولدها لكان بيانا حسنا وبلاغة كاملة؛ وإنما خص المرضعة للمبالغة، لأن المرضعة أشفق على ولدها لمعرفتها بحاجته إليها، وأشغف به لقربه منها ولزومها له، لا يفارقها ليلا ولا نهارا، وعلى حسب القرب تكون المحبة والإلف؛ ولهذا قال امرؤ القيس «١» :
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذى تمائم محول
لما أراد المبالغة فى وصف محبّة المرأة له، قال: إنى أليتها عن ولدها الذى ترضعه لمعرفته بشغفها به، وشفقتها عليه فى حال إرضاعها إياه.
، لو قال يحسبه الرائى لكان جيدا؛ ولكن لما أراد المبالغة ذكر الظمآن؛ لأن حاجته إلى الماء أشد، وهو على الماء أحرص؛ وقد ذكرناه قبل. ومثل ذلك قول دريد بن الصّمة «٢» :
متى ما تدع قومك أدع قومى ... وحولى من بنى جشم فئام «٣»
فوارس بهمة حشد إذا ما ... بدا حضر الحيّية والحذام «٤»
فالمبالغة الشديدة فى قوله:«الحيية» . ومن المبالغة نوع آخر، وهو أن يذكر المتكلم حالا لو وقف عليها أجزأته فى غرضه منها، فيجاوز ذلك حتى يزيد فى المعنى