وكان يقول: ما استؤنف إنّ- إلا وقع الفصل، وكان جبل بن يزيد يفصّل بين الفاءات كلها، وقد كره بعض الكتبة ذلك وأحبه بعض، وفصل المأمون عند «حتى» كيف وقعت، وأمر كتابه بذلك، فغلط أحمد بن يوسف، ووصل حتى بما بعده من اللفظ، فلما عرض الكتاب على المأمون أمر بإحضاره، فقال: لعن الله هذه القلوب حين اكنّت العلوم بزعمكم، واجتنت ثمر لطائف الحكمة بدعواكم؛ قد شغلتموها باستظراف ما عزب عنكم علمه عن تفهّم ما رويتموه، وتفحّص ما جمعتموه، وتعرف ما استقدمتموه؛ أليس قد تقدمنا إليكم بالفصل عند «حتى» حيثما وقعت من الألفاظ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قد ينبو السيف وهو صميم، ويكبو الجواد وهو كريم. وكان لا يعود فى شىء من ذلك، وكان يأمر كتابه بالفصل بين؛ بل وبلى، وليس.
وأمر عبد الملك كتابه بذلك إلا «ليس» . وقال المأمون ما أتفحّص من رجل شيئا كتفحّصى عن الفصل والوصل فى كتابه، والتخلّص من المحلول إلى المعقود، فإنّ لكل شىء جمالا، وحلية الكتاب وجماله إيقاع الفصل موقعه، وشحذ الفكرة وإجالتها فى لطف التخلص من المعقود إلى المحلول.
[المعقود والمحلول]
وقلنا: إن المعقود والمحلول هاهنا هو أنك إذا ابتدأت مخاطبة، ثم لم تنته إلى موضع التخلّص ممّا عقدت عليه كلامك سمى الكلام معقودا، وإذا شرحت المستور وأبنت عن الغرض المنزوع إليه سمّى الكلام محلولا.
[المثال]
مثال ذلك ما كتب بعضهم، وجرى لك من ذكر ما خصّك الله به، وأفردك بفضيلته من شرف النفس والقدرة، وبعد الهمّة والذكر، وكمال الأداة والآلة والتمهد فى السياسة والإيالة، وحياطة أهل الدين والأدب، وإنجاد عظيم الحق بضعيف السبب، ما لا يزال يجرى مثله عند كلّ ذكر يتخذ ذلك، وحديث يؤثر عنك. فالكلام من أول الفصل إلى آخر قوله «بضعيف السبب» معقود، فلما اتصل بما بعده صار محلولا.
وما كتب بعضهم: ربما كانت مودّة السبب أوكد من مودة النّسب؛ لأن المودة التى تدعو إليها رغبة أو رهبة، أو شكر نعمة، أو شاكلة فى صناعة، أو مناسبة