وقال المأمون: ما أعجب بكلام «١» أحد كاعجابى بكتاب القاسم بن عيسى، فإنه يوجز فى غير عجز، ويصيب مفاصل الكلام ولا تدعوه المقدرة إلى الإطناب، ولا تميل به الغزارة إلى الإسهاب، يجلى عن مراده فى كتبه، ويصيب المغزى فى ألفاظه.
وكان يزيد بن معاوية يقول: إياكم أن تجعلوا الفصل وصلا، فإنه أشدّ وأعيب من اللّحن.
وكان أكثم بن صيفى إذا كاتب ملوك الجاهلية يقول «٢» لكتّابه افصلوا بين كل معنى منقض، وصلوا إذا كان الكلام معجونا بعضه ببعض. وكان الحرث بن أبى شمر الغسّانى يقول لكاتبه المرقش: إذا نزع بك الكلام إلى الابتداء بمعنى غير ما أنت فيه فافصل بينه وبين تبيعته من الألفاظ، فإنك إن مذقت ألفاظك بغير ما يحسن أن تمذق به نفّرت «٣» القلوب عن وعيها، وملّته الأسماع، واستثقلته الرواة. وكان بزرجمهر. يقول: إذا مدحت رجلا، وهجوت آخر، فاجعل بين القولين فصلا حتى تعرف المدح من الهجاء، كما تفعل فى كتبك إذا استأنفت القول، وأكملت ما سلف من اللفظ.
وقال الحسن بن سهل لكاتبه الحرّانى: ما منزلة الكاتب فى قوله وفعله؟ قال:
أن يكون مطبوعا محتنكا بالتجربة، عالما بحلال الكتاب والسنة وحرامها، وبالدهور فى تداولها وتصرّفها، وبالملوك فى سيرها وأيامها، مع براعة اللفظ وحسن التنسيق، وتأليف الأوصال بمشاكلة الاستعارة، وشرح المعنى؛ حتى ينصب ضورها، وبمقاطع الكلام، ومعرفة الفصل من الوصل؛ فإذا كان ذلك كذلك فهو كاتب مجيد. والقول إذا استكمل آلته، واستتمّ معناه فالفصل عنده. وكان عبد الحميد الكاتب إذا استخبر الرجل فى كتابه فكتب: خبرك، وحالك وسلامتك؛ فصل بين هذه الأحرف ويقول:
قد استكمل كل حرف منها آلته، ووقع الفصل عليه. وكان صالح بن عبد الرحمن التميمى الكاتب يفصّل بين الآيات كلها وبين تبيعتها من الكتاب، كيف وقعت.