أمعك يا أبا معمر وأنت خطيبنا وسيدنا؟ قال: نعم، فو الله ما رأيت قلبا أقرب من لسان، من قلبك من لسانك، قال: فى أى شىء تحب أن أتكلم؟ قال: وإذا شيخ معه عصا يتوكأ عليها، فقال: صف لنا هذه العصا، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه، ثم ذكر السماء، فقال: رفعها الله بغير عمد، وجعل فيها نجوم رجم ونجوم اقتداء، وأدار فيها سراجا وقمرا منيرا؛ لتعلموا عدد السنين والحساب، وأنزل منها ماء مباركا، أحيا به الزرع والضّرع وأدرّ به الأقوات، وحفظ به الأرواح، وأنبت به أنواعا مختلفة، يصرّفها من حال إلى حال؛ تكون حبّة، ثم يجعلها عرقا، ثم يقيمها على ساق، فبينا تراها خضراء ترف إذ صارت يابسة تتقصّف، لينتفع بها العباد، ويعمر بها البلاد، وجعل من يبسها هذه العصا. ثم أقبل على الشيخ، فقال: وكان هذا نطفة فى صلب أبيه، ثم صار علقة حين خرج منه، ثم مضغة ثم لحما وعظما، فصار جنينا أوجده الله بعد عدم، وأنشأه مريدا، ووفقه مكتهلا، ونقصه شيخا، حتى صار إلى هذه الحال، من الكبر، فاحتاج فى آخر حالاته إلى هذه العصا؛ فتبارك المدبّر للعباد ... قال شبيب: فما سمعت كلاما على بديه أحسن منه.
وقال معاوية: يا أشدق؛ قم عند قروم العرب وجحاجحها، فسلّ لسانك، وجل فى ميادين البلاغة، وليكن التفقّد لمقاطع الكلام منك على بال، فإنى شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أملى على علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه كتابا، وكان يتفقّد مقاطع الكلام كتفقد المصرم صريمته.
ولما أقام أبو جعفر صالحا خطيبا بحضرة شبيب بن شبة وأشراف قريش فتكلم، أقبل شبيب. فقال: يا أمير المؤمنين؛ ما رأيت كاليوم أبين بيانا، ولا أربط جنانا، ولا أفصح لسانا، ولا أبلّ ريقا، ولا أغمض عروقا، ولا أحسن طريقا، إلا أن الجواد عسير لم يرض؛ فحملته القوة على تعسّف الإكام وخبطها، وترك الطريق اللاحب، وايم الله لو عرف فى خطبته مقاطع الكلام لكان أفصح من نطق بلسان.