[الباب الثالث فى معرفة صنعة الكلام وترتيب الألفاظ (فصلان)]
الفصل الأوّل فى كيفية نظم الكلام والقول فى فضيلة الشعر وما ينبغى استعماله فى تأليفه
إذا أردت أن تصنع كلاما فأخطر معانيه ببالك، وتنوّق له كرائم اللفظ، واجعلها على ذكر منك؛ ليقرب عليك تناولها، ولا يتعبك تطلّبها، واعمله ما دمت فى شباب نشاطك؛ فإذا غشيك الفتور، وتخوّنك الملال فأمسك؛ فإنّ الكثير مع الملال قليل، والنفيس مع الضّجر خسيس؛ والخواطر كالينابيع يسقى منها شىء بعد شىء، فتجد حاجتك من الرّى، وتنال أربك من المنفعة. فإذا أكثرت عليها نضب ماؤها، وقلّ عنك غناؤها.
وينبغى أن تجرى مع الكلام معارضة، فإذا مررت بلفظ حسن أخذت برقبته، أو معنى بديع تعلّقت بذيله، وتحذّر أن يسبقك فإنه إن سبقك تعبت فى تتبّعه، ونصبت فى تطلّبه؛ ولعلك لا تلحقه على طول الطلب، ومواصلة الدأب؛ وقد قال الشاعر:
إذا ضيّعت أول كل أمر ... أبت أعجازه إلّا التواء
وقالوا: ينبغى لصانع الكلام ألّا يتقدّم الكلام تقدما، ولا يتبع ذناباه تتبّعا، ولا يحمله على لسانه حملا؛ فإنه إن تقدّم الكلام لم يتبعه خفيفه وهزيله وأعجفه والشارد منه. وإن تتبعه فاتته سوابقه ولواحقه، وتباعدت عنه جياده وغرره؛ وإن حمله على لسانه ثقلت عليه أوساقه وأعباؤه، ودخلت مساويه فى محاسنه.