وقد كان هذا دأب جماعة من حذّاق الشعراء من المحدثين والقدماء، منهم زهير؛ كان يعمل القصيدة فى ستة أشهر ويهذّبها فى ستة أشهر، ثم يظهرها، فتسمّى قصائده الحوليات لذلك.
وقال بعضهم: خير الشعر الحولى المنقّح؛ وكان الحطيئة يعمل القصيدة فى شهر، وينظر فيها ثلاثة أشهر ثم يبرزها. وكان أبو نواس يعمل القصيدة ويتركها ليلة، ثم ينظر فيها فيلقى أكثرها ويقتصر على العيون منها؛ فلهذا قصر أكثر قصائده.
وكان البحترى يلقى من كل قصيدة يعملها جميع ما يرتاب به فخرج شعره مهذبا.
وكان أبو تمام لا يفعل هذا الفعل، وكان يرضى بأوّل خاطر فنعى عليه عيب كثير.
وتخيّر الألفاظ، وإبدال بعضها من بعض يوجب التئام الكلام؛ وهو من أحسن نعوته وأزين صفاته، فإن أمكن مع ذلك منظوما من حروف سهلة المخارج كان أحسن له وأدعى للقلوب إليه، وإن اتّفق له أن يكون موقعه فى الإطناب والإيجاز أليق بموقعه، وأحقّ بالمقام والحال كان جامعا للحسن، بارعا فى الفضل؛ وإن بلغ مع ذلك أن تكون موارده تنبيك عن مصادره، وأوّله يكشف قناع آخره، كان قد جمع نهاية الحسن، وبلغ أعلى مراتب التمام.
ومثاله ما أنشدنا أبو أحمد قال: أنشدنا أبو الحسن أحمد بن جعفر البرمكى، قال:
أنشدنا عبيد الله بن عبد الله بن طاهر لنفسه:
أشارت بأطراف البنان المخضّب ... وضنّت بما تحت النقاب المكتّب
وعضّت على تفاحة فى يمينها ... بذى أشر عذب المذاقة أشنب
وأومت بها نحوى فقمت مبادرا ... إليها فقالت: هل سمعت بأشعب
فهذا أجود شعر سبكا وأشدّه التئاما وأكثره طلاوة وماء.
وينبغى أن تجعل كلامك مشتبها أوله بآخره، ومطابقا هاديه لعجزه، ولا تتخالف