وربما كانت البلاغة سببا للحرمان. وأسباب الأمور طريفة والاتفاقات عجيبة:
أخبرنا أبو أحمد عن أبيه عن عسل بن ذكوان، قال: كتب بعضهم إلى المنصور كتابا حسنا بليغا يستمنحه فيه. فكتب إليه المنصور: البلاغة والغنى إذا اجتمعا لامرىء أبطراه؛ وأمير المؤمنين مشفق عليك من البطر، فاكتف بأحدهما.
وقوله «١» : «ربما كانت البلاغة فى الاستماع» ، فإنّ المخاطب إذا لم يحسن الاستماع لم يقف على المعنى المؤدّى إليه الخطاب. والاستماع الحسن عون للبليغ على إفهام المعنى.
وقال إبراهيم الإمام: حسبك من حظّ البلاغة ألّا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع. وقال الهندى أيضا: البلاغة وضوح الدّلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة. وقول عبيد الله بن عتبة: البلاغة دنوّ المأخذ، وقرع الحجة، وقليل من كثير.
فأما البصر بالحجّة فمثل ما أخبرنا به أبو أحمد عن أبيه عن عسل قال: قال الهيثم بن عدى: أنبأنى عطاء بن مصعب، قال: كان أبو الأسود شيعة لعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وكان جيرانه عثمانية فرموه يوما؛ فقال: أترموننى؟ قالوا:
بل الله يرميك. قال: كذبتم، إنكم تخطئون، وإنّ الله لو رمانى لما أخطأ. وقال بعضهم لأبى على محمد بن عبد الوهاب: ما الدليل على أنّ القرآن مخلوق؟ قال: إن الله قادر على مثله. فما أحار السائل جوابا.
ومثل ذلك ما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه- وهو يومئذ خليفة وكان على المنبر يخطب فى يوم جمعة، فدخل عثمان بن عفّان رضى الله عنه عليه. فقال عمر:
ما بال أقوام يسمعون الأذان ويتأخّرون؟ فقال عثمان: والله ما تأخّرت إلّا ريثما توضّأت.
فقال عمر: وهذا أيضا، أما سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من أتى الجمعة فليغتسل» .