للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الثالث: أن القبلة هي ما يَستقبله العابد بوجهه، كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء والذِّكر والذَّبح، وكما يُوَجَّه المُحتضر والمَدفون، ولذلك سُمِّيت (وجهة)، والاستقبال خلاف الاستدبار، فالاستقبال بالوجه، والاستدبار بالدبر، فأما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه فهذا لا يُسَمَّى (قبلة)، لا حقيقة ولا مجازًا، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يُوَجِّه الداعي وجهه إليها، وهذا لم يُشرع، والموضع الذي تُرفع اليد إليه لا يُسَمَّى (قِبلة)، لا حقيقة ولا مجازًا، ولأن القبلة في الدعاء أمر شرعي تتبع فيه الشرائع، ولم تأمر الرسل أن الداعي يَستقبل السماء بوجهه، بل نهوا عن ذلك.

ومعلوم أن التوجه بالقلب واللجأ والطلب الذي يجده الداعي من نفسه أمر فطري، يفعله المسلم والكافر والعالم والجاهل، وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله، كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله، مع أن أمر القبلة مما يَقبل النسخ والتحويل، كما تحولت القبلة من الصخرة إلى الكعبة، وأمر التوجه في الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز في الفِطَر، والمستقبل للكعبة يَعلم أن الله تعالى ليس هناك، بخلاف الدَّاعي، فإنه يتوجه إلى ربه وخالقه، ويرجو الرحمة أن تنزل مِنْ عنده» (١).

ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية : «إنَّ الذين يرفعون أيديهم وأبصارهم وغير ذلك إلى السماء وقت الدعاء: تقصد قلوبُهم الربَّ الذي هو فوق، وتكون حركة جوارحهم بالإشارة إلى فوق: تبعًا لحركة قلوبهم إلى فوق، وهذا أمرٌ يجدونه كلهم في قلوبهم وَجْدًا ضروريًّا، إلا من غُيِّرت فطرتُه باعتقادٍ يَصرفه عن ذلك» (٢).


(١) «شرح العقيدة الطحاوية» (ص ٣٢٧، ٣٢٨).
(٢) «بيان تلبيس الجهمية» (٤/ ٥١٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>