وهذه المقدمات كلها متهافتة لا تقوم على أساس من الشرع، ولا من العقل السليم، وإثبات تهافتها من وجوه.
الوجه الأول: أن هذا التقسيم باطلٌ من أصله، والتقسيم الصحيح أن يقال: إذا تعارض دليلان سمعيَّان أو دليلان عقليان أو دليلان سمعي وعقلي، فلا يخلو الأمر إما أن يكونا قطعيين، وإما أن يكونا ظنِّيَّين، وإما أن يكون أحدهما قطعيًّا والآخر ظنيًّا، وعلى هذا الأساس يجري الحكم لأحدهما أو عليه، فيقال: أما القطعيان فلا يمكن تعارضهما؛ لأن الدليل القطعي هو الذي يستلزم مدلوله قطعًا، فلو تعارضا لزم الجمع بين النقيضين، وإن كان أحدهما قطعيًّا والآخر ظنيًّا تعيَّن تقديم القطعي سواء كان عقليًّا أو سمعيًّا، نظراً لقطعيَّة دلالته لا بكونه عقليًّا أو سمعياًّ وإن كانا ظنِّيَّين صرنا إلى الترجيح،، ووجب تقديم الراجح سمعيًّا كان أو عقليًّا، وعلى هذا فقولهم: إذا تعارض العقل والنقل؛ فإما أن يريدوا القطعيَّين فلا نسلم إمكان التعارض بينهما، وإما أن يريدوا به الظنيين، فالتقديم للراجح، وإما أن يريدوا ما يكون أحدهما قطعيًّا والآخر ظنيًّا، فالقطعي هو المقدَّم، فإن قُدِّر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لأنه قطعي لا لأنه عقلي، فعلم بهذا أن تقديم العقلي مطلقاً خطأ فادح، وأن جعل جهة الترجيح كونه عقليًّا خطأ، وأن جعل سبب التأخير والإطراح كون النقلي نقليًّا خطأ. وهذا الوجه يقضي على مقدمتهم الثانية والثالثة.
الوجه الثاني: قولهم: «العقل أصل النقل» ممنوع؛ فإنما هو ثابت في نفس الأمر ليس موقوفاً على علمنا به، فعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في نفس الأمر، فما أخبر به الصادق المصدوق هو ثابت في نفسه، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، وسواء صدقه الناس أو لم يصدقوه، كما أن الرسول ﷺ حق، وإن كذبه من كذبه، ووجود الرب تعالى وثبوت أسمائه وصفاته حق، وإن جهله من جهله أو جحده من جحده، وعلى هذا فليس القدح في العقل قدحاً في الحقائق الثابتة بالسمع. وهذا واضحٌ إن شاء الله.
الوجه الثالث: أن العقل الصريح السليم لا يعارض النقل الصحيح، إذا كان الدليل السمعي ثابتًا في نفسه، ظاهر الدلالة بنفسه على المراد، لم يكن ما عارضه من العقليات إلا خيالات فاسدة، وأوهاماً كاسدة، ومقدمات كاذبة، إذا تأملها العاقل حق التأمل وجدها مخالفةً لصريح المعقول، وهذا ثابتٌ في كل دليلٍ عقلي خالف دليلاً سمعيًّا صحيح الدلالة، وعليه إذا عارض هذا المسمى دليلاً عقليًّا السمع وجب إطراحه لفساده وبطلانه.