للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هذين الأمرين ظنيين، "ثم بعد الأمرين لا بد من العلم بعدم المعارض العقلي، إذ لو وجد لقدِّم على الدليل النقلي قطعًا"، ما الرأي في هذا الكلام؟ إذ لو وجد المعارض العقلي لقدم على الدليل النقلي قطعًا، فعلى هذا الزعم فالمسألة ليس فيها نقاش عندهم.

"إذ لا يمكن العمل بهما"، هذه الفرضية التي يفرضونها وذكرناها، إذ لا يمكن العمل بهما، كيف يعمل بعقلي ونقلي وهما متعارضان؟، "ولا بنقيضهما، وتقديم النقل على العقل إبطال للأصل بالفرع، " وتقديم النقل على العقل إبطال للأصل وقد بينَّا كيف أنهم جعلوا العقل أصلًا في ثبوت وجود الله ثم في ثبوت النبوة ثم في إثبات ما جاء به النبي، فما جاء به النبي فرع عن الأصل الذي هو العقل.

قال: "وتقديم النقل على العقل إبطال للأصل بالفرع وفيه إبطال للفرع. " يعني إذا أبطلنا الأصل فإن بطلان الأصل يلزم منه إبطال الفرع، "وإذا أدى إثبات الشيء إلى إبطاله كان مناقضًا لنفسه فكان باطلًا. " إلى أن قال هنا -يعني في نهاية هذا الكلام: "نعم في إفادته اليقين في العقليات نظر؛ لأنه مبني على أنه هل يحصل بمجردها الجزم بعدم المعارض العقلي. " إلى آخر كلامه في هذه المسألة.

فهذه قواعد القوم التي يؤصلونها في كتبهم، ولذلك لو تصفَّحت أي كتاب أشعري في هذين البابين في الإلهيات والنبوات لن تجد قال الله تعالى وقال الرسول

وهذا نموذج من كتبهم التي تحتوي على كلام فلسفي منطقي يؤصِّلون عليه قواعدهم في باب الأسماء والصفات، ثم على أساس ذلك يقولون في صفات الله تعالى ما يشتهون وما يريدون ويردُّون كلام الله ﷿ وكلام رسوله -وهذه المسائل عامة الناس لا يعرفونها وبحمد الله في نفوس عامة الناس من تقديسٍ واحترامٍ للكتاب والسنة ما يعلمه كلُّ واحد منَّا، لكن مثل هذه الأمور يخفونها عن عوامِّهم.

وهذا كلام الغزالي يبين لك أن هذه العقيدة تخفى عن العوامِّ وتعطى لمن لخواصِّهم، يقول: الدعوة الثامنة. هذا كلام الغزالي في الاقتصاد، "الدعوة الثامنة: ندعي أن الله تعالى منزَّه عن أن يوصف بالاستقرار على العرش؛ فإن كل متمكن على جسم (١) ومستقر عليه مقدر لا محالة، فإنه إما أن يكون أكبر منه أو أصغر منه


(١) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وفي الجملة الكلام في التمثيل والتشبيه ونفيه عن الله مقام، والكلام في التجسيم ونفيه مقام آخر.
فإن الأول دل على نفيه الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، واستفاض عنهم الإنكار على المشبهة الذين يقولون: يد كيدي، وبصر كبصري، وقدم كقدمي.
وقد قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء﴾ [الشورى ١١]، وقال تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص ٤]، وقال: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِّيَا﴾ [مريم ٦٥]، وقال تعالى ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لله أَنْدَاداً﴾ [البقرة ٢٢]. وأيضا فنفي ذلك معروف بالدلائل العقلية التي لا تقبل النقيض، وأما الكلام في الجسم والجوهر، ونفيهما أو إثباتهما، فبدعة ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك نفياً ولا إثباتاً.
والنزاع بين المتنازعين في ذلك: بعضه لفظي، وبعضه معنوي، أخطأ هؤلاء من وجه وأخطأ هؤلاء من وجه.
فإن كان النزاع مع من يقول: هو جسم أو جوهر، إذا قال: لا كالأجسام ولا كالجواهر، وإنما هو في اللفظ.
فمن قال: هو كالأجسام والجواهر، يكون الكلام معه بحسب ما يفسره من المعنى.
فإن كان فسر ذلك بالتشبيه الممتنع على الله تعالى، كان قوله مردوداً.
وذلك بأن يتضمن قوله إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله، فكل قول تضمن هذا فهو باطل.
وإن فسر قوله: جسم لا كالأجسام بإثبات معنى آخر، مع تنزيه الرب عن خصائص المخلوقين، كان الكلام معه في ثبوت ذلك المعنى وانتفائه.
فلابد أن يلحظ في هذا إثبات شيء من خصائص المخلوقين للرب أولا، وذلك مثل أن يقول: أصفه بالقدر المشترك بين سائر الأجسام والجواهر، كما أصفه بالقدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات، وبين كل حي عليم سميع بصير، وإن كنت لا أصفه بما تختص به المخلوقات، وإلا فلو قال الرجل: هو حي لا كالأحياء، وقادر لا كالقادرين، وعليم لا كالعلماء، وسميع لا كالسمعاء، وبصير لا كالبصراء، ونحو ذلك، وأراد بذلك نفي خصائص المخلوقين، فقد أصاب.
وإن أراد نفي الحقيقة التي للحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك، مثل أن يثبت الألفاظ وينفي المعنى الذي أثبته الله لنفسه، وهو من صفات كماله، فقد أخطأ.
إذا تبين هذا فالنزاع بين مثبتة الجوهر والجسم ونفاته، يقع من جهة المعنى فسر شيئين: أحدهما: أنهم متنازعون في تماثل الأجسام والجواهر على قولين معروفين.
فمن قال بتماثلها، قال: كل من قال: إنه جسم لزمه التمثيل.
ومن قال إنها لا تتماثل، قال: إنه لا يلزمه التمثيل.
ولهذا كان أولئك يسمون المثبتين للجسم مشبهة، بحسب ما ظنوه لازماً لهم، كما يسمى نفاة الصفات لمثبتيها مشبهة ومجسمة، حتى سموا جميع المثبتة للصفات مشبهة، ومجسمة، وحشوية، وغثاء، وغثراء، ونحو ذلك، بحسب ما ظنوه لازماً لهم.
لكن إذا عرف أن صاحب القول لا يلتزم هذه اللوازم، لم يجز نسبتها إليه على أنها قول له، سواء كانت لازمة في نفس الأمر أو غير لازمة، بل إن كانت لازمة مع فسادها، دل على فساد قوله.

<<  <  ج: ص:  >  >>