الوجه الثاني: من الفروق بين مسلك الفلاسفة ومسلك أهل الكلام: هو أن الطريقة اختلفت.
• فالفلاسفة يقولون: إن ما جاء به الرسول وهم وخيال.
• أما أهل الكلام فيقولون: إن الرسول ﷺ لم يقصد أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معاني، ولم يبين تلك المعاني ولا دل الناس عليها ولكن ترك ذلك امتحاناً لعقولهم.
وقول المصنف:"لم يقصد بها الرسول ﷺ أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معاني ولم يبين لهم تلك المعاني، ولا دَلَّهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها، ومقصوده امتحانهم وتكليفهم إتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه، ويعرفوا الحق من غير جهته، وهذا قول المتكلمة، والجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك".
مراده هل يعقل أن أعظم بابٍ في الدين، يتركه النبي ﷺ من غير بيان وتوضيح؟ وهل يُعقل أن النبي ﷺ يتكلم بخلاف الحق ثم يترك ذلك ولم يبينه امتحاناً لعقول الناس، إذاً ما هي وظيفة الرسل إذا لم يكن مبيناً للناس؟
فالله تعالى قال في شأنه: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢]، ويقول النبي ﷺ:«إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ خَيْرًا لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ مَا يَعْلَمُهُ شَرًّا لَهُمْ»(١)، فهل هذا يمكن أن يُقبَل أن نطعن في كمال قدرة النبي ﷺ في بيان الحق، أو نطعن في كمال إرادته؟
فهؤلاء طعنوا في كمال قدرته، وفي كمال إرادته؛ لأنهم قالوا: إنه قصد بها معني ولكن لم يبين تلك المعاني ولا دلهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم ثم يجتهدوا في صرف النصوص عن مدلولها، ومقصوده امتحانهم وتكليفهم وإتعاب أذهانهم وعقولهم؛ لأن هذا الكلام الذي جاءوا به وتلك التأويلات ما جاء بها النبي ﷺ، ولا دل الأمة عليها، فلابد أن يختلقوا مثل هذا الزعم، وهذا الزعم فيه طعنٌ في الرسول ﷺ، فشتان بين ما قدم له المصنف من بيان كمال علم النبي ﷺ وكمال إرادته وكمال قدرته على الحق وبين هذا التشكيك الذي جاء به هؤلاء وزعموه في شأن الرسول ﷺ.
(١) انظر صحيح مسلم كِتَابُ الْإِمَارَةِ، بَابُ الْأَمْرِ بالْوَفَاءِ بِبَيْعَةِ الْخُلَفَاءِ، الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، برقم (١٨٤٤)، وابن ماجه (٣٩٥٦)، والنسائي (٤١٩١)، والإمام أحمد في المسند مُسْنَدُ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ (٦٧٩٣).