للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلًا لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلًا بكتب المُجون ونحوها وخِفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسِّحْر؛ فَدَعْهُ وكتبه الأولى، وهذا بابٌ واسعٌ.

وسمعت شيخَ الإسلام ابن تيمية-قَدَّس الله روحه ونور ضريحه-يقول: مَررت أنا وبعض أصحابي في زمن التَّتار بقومٍ منهم يشربون الخمر؛ فأنكر عليهم مَنْ كان معي، فأنكرتُ عليه، وقلتُ له: إنَّما حَرَّم الله الخمر؛ لأنَّها تَصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يَصدهم الخمر عن قتل النفوس وسَبْي الذرية وأخذ الأموال؛ فَدَعْهُم» (١).

قال المصنف : «قال-أي: أبو مطيع-وذكر-أي: أبو حنيفة-الكلام في قتال الخوارج والبُغاة، إلى أن قال: قال أبو حنيفة عَمَّن قال: لا أعرف رَبِّي في السماء أم في الأرض؟ فقد كفر؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥]، وعرشه فوق سبع سماوات.

قلت: فإن قال: إنَّه على العرش استوى، ولكنه يقول: لا أدري؛ العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء؛ لأنه تعالى في أعلى عِليين، وأنه يُدعى مِنْ أعلى لا من أسفل. وفي لفظ: سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف رَبِّي في السماء أم في الأرض؟ قال: قد كفر؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥]، وعرشه فوق سبع سماوات، قال: فإنه يقول: ﴿عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ولكن لا يدري؛ العرش في الأرض أو في السماء! قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر».

لا زال المؤلف يذكر كلام الإمام أبي حنيفة، كما رواه أبو مطيع البلخي ، ففي هذا الكلام نرى أن الإمام أبا حنيفة كَفَّر مَنْ أنكر صفة العلو لله ﷿، والكلام في هذا صريح لا يحتمل التأويل، بل إنه كَفَّر مَنْ تَوَقَّف في هذه المسألة، فقال: لا أدري اللهُ في السماء أم في الأرض!

لكن ينبغي التنبه هنا إلى أن كلام الأئمة في تكفير مَنْ خالف في بعض هذه المسائل هو من باب التكفير المُطلق، وليس من باب تكفير المُعَيَّن.

فالتكفير المطلق مثل الوعيد المطلق، مثل أن يتوعد الله ﷿ بالنار مَنْ يأكلون أموال اليتامى ظلمًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: ١٠]، فلا يجوز أن نحكم على من


(١) «إعلام الموقعين عن رب العالمين» (٣/ ١٢، ١٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>