للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وكلمة «مخلوق» نكرةٌ في سياق النفي تُفيد العموم؛ فما مِنْ شيء صغر أم كبر إلا والله-سبحانه-وحده المُنفرد بخلقه، قال : ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر: ٦٢]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩]، ومِن ذلك أنَّه خَلَقَ العِباد وصفاتهم وأعمالهم؛ قال تَعَالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: ٩٦].

ثم قال: «ومع ذلك فقد أَمَرَ العِباد بطاعته وطاعة رسوله، ونَهاهم عن مَعصيته، وهو-سبحانه-يُحِبُّ المُتَّقِين والمُحسنين والمُقسطين».

فلا تعارضَ بين ما أراده كونًا وقدرًا وبين ما أراده دينًا وشرعًا.

فما أراده كونًا وقدرًا قد يحبه ويرضاه وقد لا يحبه ولا يرضاه، وما أراده دينًا وشرعًا فهذا متعلق بمحبته؛ لأنه-سبحانه-أَمَرَ عبادَه بطاعته، ونَهاهم عن معصيته.

وعليه، فلا تَعارض بين تقديرِه للمعاصي وبُغضِه لها.

وليس لأحدٍ أن يَحْتَجَّ بالقدر على ارتكاب المنهيات وترك الأوامر.

قال شيخ الإسلام : «وليس لأحدٍ أن يَحتج بالقَدَر على الذَّنب باتِّفاق المُسلمين وسائر أهل المِلل وسائر العُقلاء، فإنَّ هذا لو كان مقبولًا لأمكن كلُّ أحدٍ أن يفعل ما يَخطر له مِنْ قَتْل النُّفوس، وأَخْذ الأموال، وسائر أنواع الفساد في الأرض، ويَحتج بالقدر، ونَفْس المُحتج بالقَدَر إذا اعتُدي عليه، واحْتَجَّ بالقدر المُعتدي لم يَقبل منه، بل يَتناقض، وتناقض القول يَدُلُّ على فسادِه، فالاحتجاجُ بالقدر معلومُ الفَساد في بداءة العقول» (١).

وقال: «وأما القدر، فإنه لا يَحتج به أحدٌ إلا عند اتِّباع هَوَاه، فإذا فَعَلَ فِعْلًا مُحَرَّمًا بمجرد هواه وذوقه وَوَجْدِه من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته استند إلى القَدَر، كما قال المشركون: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٤٨]، وقال تَعَالى: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: ١٤٨ - ١٤٩].

فبين أنَّهم ليس عندهم علمٌ بما كانوا عليه من الدِّين، وإنما يتبعون الظنَّ».

إلى أن قال: «والعبدُ مَأمور أن يَصبر على المَقدور ويطيع المأمور، وإذا أذنب استغفر، كما قال تَعَالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [غافر: ٥٥]،


(١) «مجموع الفتاوى» (٨/ ١٧٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>