[حكمة الله في تسليط أهل الكفر والعصيان على أهل الحق والإيمان]
وإن من حكمة الله البالغة إنزال البلاء بالمسلمين، وجعل الله الأيام دول بين أهل الإيمان وأهل الكفر والعصيان، وبين أنصار الرحمن وبين أنصار الشيطان؟ لمَ تكون الدولة للكافرين على المسلمين؟ فهذه أيضاً حكمة عظيمة خصوصاً في هذه الأوقات العصيبة التي نرى فيها أن الكافرين قد أحاطوا بالمؤمنين إحاطة ليس بعدها إحاطة، وأنهم تداعوا عليهم كما تتداعى الأكلة على قصعتها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنك إذا نظرت لذلك صدقت بالله، وآمنت بالله، وازداد يقينك في الله، وقلت: ما وعدنا الله ورسوله إلا صدقاً وحقاً، فإن الله فعل ذلك لحكمة عظيمة، فجعل الأيام دولاً لأمرين اثنين: الأمر أول: ليستشعر المؤمنون نعمة النصر ونعمة الخير التي أذاقهم الله إياها بعدما كانوا في تشرذم، وبعدما كانوا قلة، وبعدما كانوا مستضعفين، فنصرهم الله ببدر، وأراهم الخير كله، وأعلى كلمتهم على أهل الكفر، فشكروا الله جل في علاه، فتم لهم نصف الدين، ثم في غزوة أحد أنزل الله البلاء عليهم لينظروا في البأساء فيصبروا فيما كما شكروا في السراء، فتكتمل لهم درجات الإيمان.
الأمر الثاني: ليتخذ الله جل في علاه من هؤلاء الذين اصطفاهم أناساً ليكونوا في منزلة لا يرتقي أحد إليها هذه المنزلة منزلة الشهداء لا تكون إلا بالهزيمة لأهل الإيمان، فلما هزم المؤمنون أظهر الله جل في علاه لنا شجاعة أنس بن النضر وبسالة طلحة وإقدام أبي دجانة رضي الله عنهم، فهؤلاء الصناديد نبراس لنا وقدوة، ولم يظهروا إلا بعد هزيمة المسلمين في غزوة أحد، فإن أنس بن النضر اتخذه الله شهيداً بعدما ظهرت شجاعته، ودخل متقدماً على الكافرين حتى قتل، وما عرف إلا ببنانه.
وطلحة بن عبيد الله فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه حتى إنه كان يقول: نحري دون نحرك يا رسول الله! لا ترفع رأسك فيأتيك سهم من سهام القوم.
ثم بعدما دق سيفه أخذ يدافع عن رسول الله بيده حتى شلت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دونكم صاحبكم فقد أوجب) يعني: أوجب الجنة.
وأبو دجانة عندما ربط العصابة الحمراء قالوا: ربط أبو دجانة عصابة الموت، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم خشبة، فهزها فأصبحت سيفاً، فقال: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام الزبير، فقال: اجلس، فقام الزبير مرة ثانية، فقال: اجلس، حتى قام أبو دجانة فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فهذه من الحكم البليغة التي ظهرت في غزوة واحدة؛ فإنه ظهر فيها كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهزم وكاد يقتل، وجعل الله الدولة لأهل الكفر، كل ذلك لحكمة عظيمة هي اتخاذ هؤلاء الشهداء، وإظهار صدق الصادقين، ومنهم أنس وطلحة وعمرو بن الجموح، وهو من صناديد أهل الإسلام أيضاً؛ فإنه وكان أعرج، والله جل في علاه قد رفع الحرج عن الأعمى والأعرج، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله إني أريد هذه الغزوة.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد رفع الله عنك الحرج، فقال: والذي نفسي بيده! لأطأن بعرجتي هذه الجنة! فعلم النبي صلى الله عليه وسلم صدقه فقال لأولاده: اتركوه وما يشتهي، لعل الله يرزقه ما يريد)، فما كان له أن يكون شهيداً في هذه المعركة إلا بما حدث في غزوة أحد، فاتخذ الله الشهداء، وأظهر الصادقين.
ومن حكم الله العظيمة التي أظهرها لنا في هذه الغزوة حكمة أعلى وأعظم، وهي أن في معصية رسول الله الهلاك، فالرماة عندما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الطير تتخطفنا فلا تنزلوا عن مواقعكم)، فعصوا أمر رسول الله بعدما رأوا أن القوة والغلبة للمسلمين، وقالوا: الغنيمة الغنيمة.
ونسوا أو تناسوا أو غفلوا أو تغافلوا أمر رسول الله، فقال أميرهم: إن رسول الله أمركم ألا تنزلوا عن مواقعكم.
فنزلوا عن مواقعهم فحدث ما حدث من الهزيمة، فحذار! من معصية رسول الله، وحذار أن يأتيكم أمر من رسول الله فتردوه، وحذار! أن تعلموا أن الله أو رسول الله حكم بحكم فتردوه، فلكم في هزيمة المؤمنين في غزوة أحد عبرة؛ فإن السبب الرئيسي هو عصيان أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهناك حكم بليغة عظيمة لممحص النظر في أفعال الله جل في علاه تظهر له ويتعبد بها لله جل في علاه.