للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[كيفية التعبد لله بصفة الحكمة]

وحكمة الله جل في علاه لا بد أن يستحضرها المرء في قلبه، يرى عطاء الله فيقول: إن الله لم يعط فلاناً إلا لحكمة، ولم يمنع فلاناً إلا لحكمة، ولم يرفع أقواماً ولم يخفض آخرين إلا لحكمة، ولم ينزع الملك من أقوام إلا لحكمة، ولم يؤت الملك لأقوام آخرين إلا لحكمة جليلة عظيمة، ألم تر أن الله قد عاب على من رد حكمة الله فيقول مثلاً: خلقت وما أدري لم خلقت؟! ومن أين جئت؟! أو أين أذهب؟! قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦]، واللام هنا تسمى لام تعليل، ويعبدون من الأفعال الخمسة التي تنصب بحذف النون، وهذه النون ليست نون الرفع وإنما هي نون الوقاية.

إذاً: الحكمة من الخلق العبادة، وكأن الله جل وعلا يقول: خلقت الجن والإنس لأمر جسيم، ولأمر مهم، وهو العبادة، ولذلك استنبط العلماء من هذه الآية أن الجن مكلفون: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦].

فحكمة الله لا بد أن ينظر لها العبد حتى يتعبد بها لله جل في علاه، ولا بد أن ينظر في أفعال الله ويقول: ما كانت إلا عن حكمة لله جل في علاه.

فهذا يصل بالمرء إلى ألا يتسخط على أقدار الله، كما فعل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه؛ فإنه كان يصبح وهمه في قدر الله، ولذا قال: ما فرحت بشيء إلا فرحت بقدر الله جل في علاه.

والعبد إذا استحضر حكمة الله فيما يتنزل عليه من بلايا ومن سراء وضراء ومن خير وشر فإنه ستكون عاقبته إلى خير، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، فنصف الدين الشكر، والنصف الآخر هو الصبر، ويتقلب العبد بين الشكر والصبر بنظره إلى حكمة الله، وأن أفعال الله خاضعة لحكمته جل في علاه، فينظر إلى الواقع الذي عاشه الصحابة وهم يطبقون هذه الصفة تعبداً لله، فانظر هل خلق الله عز وجل إبليس عبثاً أم لحكمة؟ إن الله ما خلق إبليس إلا لحكمة، وهذا يمنع المرء من أن يتسخط على أقدار الله، ويمنع المرء من الشطط ومن الغلو والجفاء، فلا يكون في باب القدر قدرياً ولا جبرياً، والفرق بين الجبرية والقدرية: أن القدرية قالوا: العبد يخلق فعل نفسه، والله لا يخلق فعل العبد، وأما الجبرية فقالوا: إن الله خلق أفعال العباد جميعاً، وكلهم مطيع وعاصٍ تحت أمر الله جل في علاه، فكلهم مجبورون لله جل في علاه، ولذلك قالوا: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء فإذا تعبد العبد بصفة الحكمة لله جل في علاه لن يوافق القدرية، ولا الجبرية؛ لأنه سيرى أن الله جل وعلا حكيم عليم، هدى أناساً بحكمته وعلمه وفضله، وأضل أناساً بحكمته وعلمه وعدله، كما قال عز وجل: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:٣٦].

<<  <  ج: ص:  >  >>