للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أمثلة من تسليم الصحابة لحكم الله عز وجل]

والرجوع إلى الله ليحكم بين المرء وبين من اختلف معه -إما بكتاب الله وإما بسنة النبي صلى الله عليه وسلم- كان واقعاً عاشه الصحابة الكرام، ولذلك كتب الله لهم القيادة والريادة والسيادة، وكان هذا الرعيل هو الذي ارتقى عند ربه لأنه طبق هذه الصفة أيما تطبيق، فهؤلاء الصحابة كانوا إذا تنازعوا فيما بينهم ردوا الأمر إلى الله وردوا الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عملاً واعتقاداً بأن الحكم العدل هو الله جل في علاه، وأن الحكم كله لله لا يرجع للقبائل ولا للقوانين الوضعية، ولا يرجع إلى شيء عدا الله جل في علاه.

فعندما حدثت المشاحة بين أبي بكر وعمر رّدا هذا النزاع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما مقران في نفسيهما بأن الله حكم عدل، ولا بد من التسليم لحكمه؛ عملاً بقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦]، وعملاً بقول الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥].

فيا أخي الكريم! هل جلست مع نفسك عندما تنازعت مع إخوانك؟ فإن الشيطان الذي يئس أن يعبد في جزيرة العرب لم ييئس أن يحرش بين الإخوة المسلمين الملتزمين بدين الله جل في علاه، فهل عندما حدث التنازع رددت نفسك إلى ربك جل في علاه؟ هل رددت نفسك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل عملت وتعبدت لربك بصفة الحكم لله جل في علاه؟ إن فعلت ذلك فأنت من السعداء، فأنت الذي اصطفاك الله جل في علاه؛ لتعتقد هذا الاعتقاد الصحيح، بل وتترجمه حياة واقعة كما فعله الصحابة الذين أنزل الله عدالتهم من فوق سبع سماوات، فهذا أبو بكر حدثت بينه وبين عمر مشاحة، فاشتد أبو بكر على عمر؛ لأنه كان فيه حدة على رقة قلبه، ثم تراجع فذهب إلى عمر يستسمح، فـ عمر أبى على أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يفصل بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يستحضر أن الحكم الصحيح الذي سينفذ على أبي بكر وعلى عمر ويكون على رأس أبي بكر ويكون على رأس عمر هو حكم الله جل في علاه، كما قال جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥]، فذهب أبو بكر متنازعاً مع عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما رآه رسول الله وهو حاسر عن ركبته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن صاحبكم قد غامر)، فلما كشف له عن حقيقة الأمر وجاء عمر تمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبادئ ذي بدء قد يقول الإنسان: كيف يستعدي أبو بكر رسول الله على عمر وهو الذي أخطأ في حق عمر، فيمكن للأغرار الأغمار الذين لا ينظرون بعمق النظر أن يقولوا ذلك، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن سابقة أبي بكر، وأن فضل أبي بكر يسبق عمر بمراحل، فـ عمر نفسه كان يقول: ليتني شعرة في صدر أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه! فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفصل في النزاع، فانظروا كيف التسليم، ولذلك من أروع ما قال ابن القيم في هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥]، قال: الإيمان لا يوجد إلا بثلاث خصال: الأولى: أن يحكم الله ورسوله في النزاع، فإن حكّم غير الله وغير الرسول فليس بمؤمن.

والثانية: ألا يجد في نفسه حرجاً؛ فإن وجد في نفسه حرجاً بعدما سمع حكم الله وحكم الرسول فليس بمؤمن.

الثالثة: أن يسلم تسليماً، فإن لم يجد من نفسه التسليم لحكم الله وحكم رسوله فليس بمؤمن.

فانظروا إلى الصحابة كيف كانوا يطبقون هذه الصفة، فلما دخل عمر تمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم وفصل في النزاع فقال: (هلّا تركتم لي صاحبي؟! قلتم: كذب، وقال: صدق، وواساني بأهله وماله، سدوا عني كل خوخة إلا خوخة أبي بكر)، فرضي عمر بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الصحابة بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا تسليماً، قال الراوي: فما رؤي أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه حزيناً أبداً، كان يشتد على من يشتد عليه ويقول: يغفر الله لك يا أبا بكر.

وقد حدث أن أبا بكر اشتد على بعض الأنصار ثم قال له: اقتص مني، فقال الأنصاري: يغفر الله لك يا أبا بكر! ولم يرد عليه، تسليماً لحكم رسول الله؛ ولأنه علم مكانة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقال له: اقتص مني وإلا استعديت عليك رسول الله، فقال بعض الأنصار: هو يشتد عليك ويستعدي عليك رسول الله؟ والله لنذهبن معك عند رسول الله ولنستعدين رسول الله عليه، فقال لهم الأنصاري: اصمتوا، لعل أبا بكر يسمعكم فيغضب، فيغضب رسول الله لغضب صاحبه، فيغضب الله لغضب رسوله فيهلك صاحبكم.

انظروا إلى التسليم وإلى فصل النزاع من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما فصل القضية، فـ أبو بكر لا يقال له إلا: يغفر الله لك، أبو بكر لا بد أن يوضع على الرءوس، أبو بكر هو الإمام والقدوة ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته: (ائتوني بكتاب حتى لا يقول قائل)، يعني: حتى لا يقول قائل: أنا أحق بها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا، يأبى الله ويأبى المؤمنون إلا أبا بكر).

ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حكم الله عندما أراد أن يكتب الخليفة، ورجع إلى حكم الله الكوني؛ لأنه ركن إلى أن الله جل وعلا لا بد أن يمكن لـ أبي بكر رضي الله وأرضاه، وهذا هو الذي حدث، فقد مكن الله لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.

ومن أروع الأمثلة في ذلك ما حدث لـ بلال وأبي ذر لما تنازعا وحدث الشجار بينهما، ونحن نقول: حصل ذلك وهم صحابة رسول الله لأنهم بشر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولأتى بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم)، فالناس جبلوا على الوقع في الخطأ، لكن الله جل وعلا يتداركهم برحمته فيتوبون إليه.

فنظر أبو ذر إلى بلال فقال: يا ابن السوداء! عيره بأمه؛ لأنه من الحبشة، فهذه مشاحة حدثت بين أبي ذر وبين بلال، فرأى بلال أن يرد الحكم لرسول الله؛ لقول الله عز وجل: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله)) [الأنعام:٥٧]، وهو إذا رد الحكم إلى رسول الله فقد رده إلى الله؛ لأن رسول الله لا يحكم إلا بحكم الله وبوحي منه، فذهب بلال فاشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففصل النبي صلى الله عليه وسلم في النزاع بين صحابته فقال: (يا أبا ذر! قلت له: يا ابن السوداء؟ عيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية)، فرضي أبو ذر بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجد غضاضة في قلبه، وسلم تسليماً، فجاء إلى محفل من الصحابة وفيهم بلال رضي الله عنه وأرضاه فتقدم إلى بلال فوضع خده على التراب، ثم قال لـ بلال: والله! لا أرفع خدي عن التراب حتى تطأ خدي! هكذا يسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، فقال: أرد ذلك بالتواضع لأخي في الله، عملاً بقول الله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:٥٤].

فانظروا إلى جميل صنيعهم عندما يتعبدون لله بصفة الحكم.

وهناك قصة طريفة جاءت أيضاً في أمر التسليم تبين أن أمر التسليم لحكم الله وحكم الرسول هو مكمن الإيمان، وإن كان السند ضعيفاً، لكن يستأنس بها: فقد جاء منافق ويهودي يتحاكمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعدما نظر في دعوى الخصمين، حكم لليهودي؛ لأن ديننا حكم عدل، ورسولنا حكم عدل، فحكم لليهودي، فلم يرض المنافق بحكم رسول الله، فقال: لا أرضى، نذهب إلى أبي بكر، فذهبوا إلى أبي بكر، فـ أبو بكر بعدما نظر إلى دعوى الخصمين حكم لليهودي، وهو لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكم لليهودي؛ لأن الدين واحد، فقال: لا أرضى إلا بحكم عمر، فذهبا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقال عمر: أحكم بينكما رسول الله؟ قالا: نعم، قال اليهودي: فلم يرض بحكم رسول الله، قال: ولم يرض؟ قال: نعم، فقال لليهودي: ترضى بحكمي؟ قال: أرضى بحكمك، ثم قال للمنافق: ترضى بحكمي؟ قال: أرضى بحكمك، قال: انتظروني هنيهة، فدخل فاستل سيفه، ثم خرج فقطع رقبة المنافق.

لأن الله تعالى يقول: ((وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [النساء:٦٥]، فلما لم يوجد التسليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق كان هذا دليلاً على عدم الإيمان في القلب، ولهذا قطع عمر رأسه.

<<  <  ج: ص:  >  >>