[تنزيه الله عن النقائص]
كل الصفات السلبية تدخل تحت صفة السبوح، وهو المنزه عن كل النقائص.
قال سبحانه: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥]، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدجال أعور وإن ربكم ليس بأعور)، فهذه نقائص في حق الله سبحانه لا بد من تنزيه الله عنها، والعبد الذي يعتقد الاعتقاد الصحيح ينزه الله ويرفض كل نقيصة تنسب إليه سبحانه.
ومن النقائص التي يجب أن ينزه الله عنها ما يقوله كثير من الناس: لماذا أهل الإسلام الآن في الحضيض، وأهل الكفر لهم السلطة والدولة عليهم؟ وهذا اتهام لله جل وعلا بالنقائص؛ لأن الله سبحانه تعبدنا بالإيمان بصفة من صفاته وهي الحكمة، فإذا قال الإنسان: لم يفعل الله كذا؟ فكأنه قدح في حكمته سبحانه، والله تعالى جعل الأيام دولاً، لحكم كثيرة منها: ليميز الخبيث من الطيب، وليصطفي من عباده شهداء، وليرجع العباد إليه ويلجئوا إليه عند الشدائد، قال الله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:٤٢]، كما أن من هذه الحكم: الاعتقاد الجازم بأن الكون كله بيد الله، وأن الله قادر على أن يرفع أقواماً ويخفض آخرين، ومنها: أن القوة المؤمنة، والقوة الكافرة إذا التقتا، وقاتلت هذه بالإيمان، وهذه بكفر، فالغلبة تكون لمن؟ لكن لو قاتلت القوى الكافرة والقوى المؤمنة على الحمية فإن الله يجعل الغلبة لمن؟ للأقوى، وقد كان ذلك.
فهذه حكم جليلة مما يحدث بين أهل الإسلام وأهل الكفر يعلم الله عز وجل بها من يشاء من عباده.
فمن قال: لم يفعل الله كذا؟ فقد قدح في حكمة الله، ولم ينزهه حق التنزيه، وينبغي أن يعلم ويبين له أن هذا خطأ، وأن التعبد لله بهذه الصفة هو أن يعلم العبد أن الله منزه عن كل عيب، ويبغض كل عيب، كما يحب من كل عبد أن ينزه نفسه عن كل عيب، فعلى العبد أن يطهر قلبه من الحسد والأحقاد والضغائن وما يبغضه الله جل في علاه، ويطهر جوارحه من مساوئ الأخلاق، فإن الإنسان المنزه لا يرضى أن تخدش مروءته، ولذلك يقول الشافعي أو أحد السلف: والله لو علمت أن الماء يقدح في مروءتي ما شربته، ويقول الربيع: ما شربت الماء أمام الشافعي حياء منه؛ لأنه يخاف أن تخدش مروءته، وهذه قصة وإن كان في سندها كلام إلا أنها تبين كيف كان المحدثون يخشون على أنفسهم وعلى مروءاتهم، ويعلمون أن النقائص لا بد من البعد عنها، فـ البخاري -جبل الحفظ، والمحدث البارع في هذه الأمة التي امتن الله عليها به، والذي كتابه أصح كتاب بعد كتاب الله جل في علاه- ركب سفينة وكان معه ألف درهم، أو ألف ألف درهم على رواية أخرى، وكان ينفقها من أجل طلب العلم، فجاء رجل فنظر في الناس فوجد أن أحسنهم سمتاً وخلقاً وأفضلهم عبادة هو البخاري، فدخل عليه فقال: رأيت فيك الخير، وما رأيتك إلا وذكرت الله، فأريد أن أخاللك في هذه السفرة، لنتعاون على طاعة الله، فجلس معه وقال له: معي من المال كذا وكذا أتاجر فيه، فهل معك من مال؟ -وكان البخاري لا يكذب في حديث الناس فضلاً أن يكذب في حديث النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: معي ألف درهم، أو ألف ألف درهم- كما في رواية- فبات الرجل والشيطان يلعب بقلبه، ويوسوس له كيف يأخذ المال من البخاري؛ ولذلك يقول الله تعالى {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:١٢١].
فعندما طرق الطارق وبزغ الفجر قام صارخاً يبكي ويتباكى، ويقول: إن أمواله قد سرقت، فالتف حوله الناس في السفينة، فقال لهم: سرق مني ألف ألف درهم، قالوا: سرقت منك كيف ذلك؟ قال: بت الليل ومعي ألف ألف درهم، فما أصبحت إلا وقد سرقت، فقال حكيم منهم: إن سرقت ونحن في البحر، فلا بد من البحث عن المال عند أهل السفينة جميعاً، حتى نرى من الذي سرق منك مالك، فقاموا جميعاًَ يبحثون عن الألف ألف درهم، حتى ما بقي إلا البخاري، فدخلوا عليه وفتشوا مكانه فلم يجدوا شيئاً البتة، فلما لم يروا ذلك قالوا: إنك رجل مجنون! فذهب الرجل يبكي على ما فعل، وقال للبخاري: بالله عليك أين وضعت المال؟ -وهو يعلم يقيناً أن البخاري لا يكذب- فقال: المال في البحر قال: ألقيت ألف ألف درهم في البحر؟ قال: أتحسب أن مروءتي تساوي ألف ألف درهم، وحافظ البخاري على مروءته، فهو الذي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يقال فيه مرة: اتهم بالسرقة فيضعف حديثه، ففاز البخاري رحمه الله بفعله.
والحديث عن هؤلاء كثير فقد كانوا ينزهون أنفسهم دائماً عن النقائص والمعايب، حتى إن البخاري نفسه لما رأى قول الله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَة} [الهمزة:١]، وكان جالساً في مجلس العلم، وشيخه في مجلس التحديث يملي عليهم الحديث، فأشار شيخه بيده، فتبسم البخاري لإشارة شيخه، فخشي أن تكون هذه من الغيبة أو يحل عليه العقاب الوارد في هذه الآية فذهب يتحلل من شيخه.
وهذا من شدة ورعه رحمه الله، وبعده عن النقائص والمعايب.
ودخل ابن عمر على نافع وهو يصلي حاسراً عن رأسه، فاشتد غضبه عليه، فلما انتهى من الصلاة قال: يا نافع! أتخرج في الأسواق في هذا -أي وأنت حاسر عن رأسك- قال: لا، قال: فالله أحق أن تستحي منه.
هكذا كانوا ينزهون الله ويعطمونه رضي الله عنهم.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يتعبدونه بالتسبيح والتنزيه عن كل عيب ونقص.