[أثر صفة الأحدية في إيمان العبد]
إن الله جل في علاه هو الواحد الأحد المتفرد بالجمال والجلال والكمال والبهاء والعظمة سبحانه جل في علاه، فإذا اعتقدت هذا اعتقاداً راسخاً في قلبك علمت أن الله جل في علاه متفرد في الإلهية، فلا يستحق العبادة أحد غيره، ولا تصرف عبادة إلا له، فلا يذبح إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يخاف إلا منه، ولا يسجد إلا له، ولا يدعى أحد غيره سبحانه وتعالى، وإذا علمت أن ربك جل في علاه هو الذي يتفرد بالملك والإحياء والإماتة، ويتفرد بالإعطاء وبالمنع، واعتقد ذلك قلبك؛ فلن يميل إلا للواحد الأحد، كما أنك إذا توجه قلبك وعبادتك إلى الواحد الأحد فلن تتشتت معنوياً ولا حسياً.
وأما من يعتقد غير ذلك كمن يتعبد بالثالون، فيقول: باسم الأب، وباسم الابن، وباسم روح القدس، فتجده متشتتاً لا يدري أيرضي الأول، أم يرضي الثاني، أم يرضي الثالث؟ ولا يدري أيصرف هذه العبادة للأول أم للثاني أم للثالث؟ وإذا ألم به ضر فأراد كشفه أيدعو الأول أم الثاني أم الثالث؟ ومثلهم من يقول: إن عزيزاً هو الله -حاشا لله جل في علاه-، فيتحير هل يتعبد لـ عزير أم يتعبد لله جل في علاه؟ وهنا يدرك المرء منّة الله عليه أن وحد عبادته له وحده، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد.
ومن آثار هذه الصفة على إيمان العبد أيضاً أن الله جل في علاه أراد أن يطهر قلبك بهذه الصفة -صفة الأحدية-، فإذا رأيت نفسك وأنت تتعبد لله بعبادة، أو تتصدق لله بصدقة، أو تجاهد لله جل وعلا حق الجهاد وقد حدث في قلبك شيء أرابك، كأن تريد أن يرى الناس فعلك، أو أن يروا مكانك، فتقول: لا والله إن صفة الله تأبى ذلك، فإن الأحدية تأبى التشريك، والله جل في علاه قد صرح بذلك في أكثر من موضع من كتابه ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أجلى وأوضح ما صرح به ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، فإن الذي يتعبد لغير الله جل في علاه لم يتقن هذه الصفة، فكيف يكون عبداً مربوباً لله جل في علاه، ويعلم أن الله هو الواحد الأحد المتفرد المستحق لإفراد العبادة له جل في علاه، ثم يشرك معه غيره! وقد ثبت في الصحيح: (أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة: العالم، والمجاهد، والمنفق)، ومع أنهم هم قوام الأمة ومعلوم أن أعلى الطبقات والمراتب بعد النبوة والصديقية؛ هي طبقات العلماء والمجاهدين والمنفقين، وما ذاك إلا لأن العالم تعلم لا لله جل في علاه، فلم يتعبد الله بهذه الصفة العظيمة الجليلة، وأن المجاهد لم يجاهد من أجل رفع راية لا إله إلا الله! بل جاهد من أجل أن يقال له: شهيد، والشهادة ليست مقصودة بذاتها، بل المقصود بذاته هو رفع راية لا إله إلا الله، وأن المنفق لم ينفق من أجل التقرب إلى الله بإعانة عباده! بل من أجل أن يقال: سخي.
إن صفة الأحدية تأمرك أن توحد العمل في القلب لله الواحد المتفرد في العبادة سبحانه وتعالى، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول من تسعر بهم النار ثلاثة: عالم ومجاهد ومتصدق، فأما العالم فيأتي به الله جل في علاه فيعرفه نعمه عليه، فيقول: فما فعلت فيما أنعمت عليك؟ فيقول: تعلمت العلم فيك وعلمته فيك، فيقال: كذبت)؛ لأنه لم يتعبد بهذه الصفة الجليلة: صفة الأحادية فلم يوحد الاتجاه لله جل في علاه، بل لينظر الناس أو يسمعوا به، وكأنه لم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به) فكان ذلك -والعياذ بالله- جزاءً وفاقاً وأجراً طباقاً، فلما فعل ذلك جهلاً منه قال الله تعالى له: (كذبت! بل تعلمت ليقال: عالم وقد قيل، ثم يزج به في نار جهنم.
وأما المتصدق -الذي ينفق كل ماله، أو شطر ماله، أو ينفق كثيراً من ماله- فيؤتى به يوم القيامة ثم يقول الله جل في علاه له: ماذا فعلت فيما أنعمت به عليك؟ فيقول: أنفقت فيك يا رب العالمين! فيقول الله جل في علاه: بل فعلت ذلك ليقال: متصدق، وقد قيل)، أي: قد أخذت حظك في الدنيا، فأنت لم تتعبد بهذه الصفة الجليلة، فلم توحد قلبك لربك الواحد المستحق للعبادة سبحانه وتعالى، والمستحق لإفراد العبادة له، فيقال له: (قد قيل، ثم يزج به في نار جهنم).
وأما المجاهد فهو الذي أهلك نفسه وروحه، ويا لها من خسارة وعار على رجل باع نفسه زيفاً وزوراً، وهو الذي قاتل وجاهد فيما يرى الناس؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً شجاعاً يقاتل يميناً ويساراً، فيهجم على الأعداء بكل شجاعة وقوة، فقال: (هذا في النار)، أي: أنه ليس من أهل الجنة، ومثله هذا الرجل الذي يسعر به في نار جهنم، حيث يقول الله جل في علاه له: (فما فعلت بما أنعمت عليك؟ فيقول: قاتلت فيك حتى قتلت، فيقول الله جل في علاه: كذبت! بل فعلت ذلك ليقال: شجاع أو يقال: مجاهد وقد قيل، ثم يزج به في نار جهنم) مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع)، في رواية أخرى وهي التي تفسر هذه الرواية: (فيما يبدو للناس) أما القلب الذي كلف أن يوحد لم يفرد الله جل وعلا بالعبادة، ولم يصدق الله جل في علاه في النفقة، ولا في العلم، ولا في الجهاد، فقال: (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإنكم لترون الرجل يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينها إلا ذراع، ثم يسبق عليه الكتاب)، والرواية الأخرى: (فيما يبدو للناس) إذ أن الله أعلم بالسرائر، فإن كل سريرة عند ربنا جل وعلا علانية، كما أن مقياس الناس عند رب الناس هو القلب، والتوحد المحض ليس في الظاهر بل في القلب، فقد ترى الرجل قائماً عابداً صائماً قائماً منفقاً وهو عند الله جل وعلا لا يزن جناح بعوضة.
قال ابن القيم: يصلي الرجل وبجانبه الرجل وما بينهما كما بين السماء والأرض من التفاوت، وما ذلك إلا لما في القلب من التوحيد الخالص لله جل في علاه، فكلاهما يقرأ الفاتحة، وكلاهما يركع، وكلاهما يسجد، لكن التفاوت بينهما تفاوت في القلوب، فأحدهم صدق الله في الأحدية، فتعبد لله وقلبه متجه لمن فوق العرش كما قال علي بن أبي طالب: كونوا بين الناس بأجسادكم، وأرواحكم حول العرش تحوم.
يريد: عليكم أن توحدوا الله في قلوبكم التوحيد الخالص.
وفي حديث البطاقة: (أن رجلاً وزنت سجلات معاصيه وسجلات حسناته فرجحت كفة السيئات، وعلم الرجل أنه قد هلك، ثم يقال له: عندنا شيء لك، فيقول: ما هو؟ فيقال له: البطاقة، فيقول: وما تفعل هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقول الله جل في علاه: لا ظلم اليوم، فيأخذ البطاقة وفيها: لا إله إلا الله، -ولابد أن يعلم أنه ما من مسلم إلا وهو يقول: لا إله إلا الله، وليس كل أحد سينال ما ناله صاحب البطاقة- فتؤخذ البطاقة فتوضع في سجلات الحسنات، فترجح كفة الحسنات)؛ لأن صاحب البطاقة وحد الله بحق، وتعبد بقلبه بصفة الأحادية وما ترك عبادة إلا وقصد بها ربه، ولم يرد للناس منظراً أو مكانة أبداً.
وينبغي أن يعلم المتعبد لله بصفة الأحدية أن التوحد الخالص، والانفراد التام المطلق لا يكون إلا لله جل في علاه، فلا يطمع في الأحادية وإن كان كل واحد منا فيه هذه الصفة، فتراه يحب أن يتفرد أمام الناس، ويكون هو المتفوق، وهذا يحدث لكل إنسان، فالغني يحب أن يكون هو أغنى الناس؛ حتى يتفرد عن الناس، فالأحادية متغلغلة فينا، والربوبية داخلة فينا؛ لكن منا من يقمع هذا برحمة الله له، فيوفقه الله جل في علاه لعبادته، ومنا من تنفجر عنده والعياذ بالله كفرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، فهي موجودة في كل إنسان، إلا أن الإنسان إذا تعبد الله بالأحدية لم يطمع أن يكون متفرداً في الساحة وحده، فلا يقول: أنا العالم ولا عالم غيري فإن الله خلق الألف والآلاف والملايين من العلماء، فاعلم أنك لن تتوحد، ولا يمكن لك أن تنفرد في الساحة، فييأس من ذلك فيخضع لله جل في علاه، ويقول: نشترك أنا وإخوتي لرفع راية لا إله إلا الله، ولا أتصارع معهم.
ولذلك نرى بين كثير من الدعاة وطلبة العلم انتشار الحسد والحقد؛ لأنهم لم يتقنوا كيفية التعبد لله في الأحادية، فهم لا يعلمون أن الله جل وعلا أبى أن يتفرد أحد الانفراد المطلق إلا هو سبحانه وتعالى، فالعالم لا يمكن أن يكون متفرداً عالماً، بل سيجد قريناً له، وسيجد خليلاً له، وسيجد عالماً مثله، وسيجد من يجتهد أكثر منه، ولذلك قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:٢٦]، فلك أن تسابق لكن لن تكون وحيداً في عصرك، فإن الله خلق منك الكثير، فإذا استيقن المرء في قلبه أن الانفراد المطلق لله لم يطمع أن يكون وحيد عصره وفريد دهره، ولن يحقد على غيره أو يحسده، بل سيدعو الله أن يوفق إخوانه وأن يجعلهم عوناً له على طاعة الله ورضوانه.
كما أنك عندما تتدبر تدبراً عميقاً في قلبك وخاصة خلواتك -لأن الخلوات هي أهم ساعات العبادة، وتدبر القلوب هو أهم العبادات- الأحدية فقلت: نزل بي البلاء إلى من أذهب؟ إلى أخي سيقف بجانبي، وإلى أبي سيعطيني، وإلى أمي ستدعو لي، إلى من أذهب؟ إلى عمي إلى خالي إلى القريب، إلى من أذهب؟ فإذا تدبر الأحدية فسيقول: هذا البلاء نزل من الواحد ولن يرتفع إلا من الواحد، وإنما تفعل ذلك إذا كنت تعتقد اعتقاداً جازماً بأن الواحد الأحد هو المتفرد بالعطاء وهو المتفرد بالمنع، وهو المتفرد بكشف البلاء سبحانه وتعالى، فإن قلبك لن يميل أبداً إلا لربك، فاكشف عن قلبك الآن، وارجع إلى الوراء حتى تنظر عندما نزلت بك البلية أنزلتها بغير الله أم لا؟ فوالله ما منا من أحد إلا وقد نزلت عليه البلية فأنزلها بغير الله جل في علاه، ووالله أقول ذل